Al Jazirah NewsPaper Thursday  19/11/2009 G Issue 13566
الخميس 02 ذو الحجة 1430   العدد  13566
مساء أن نقتسم النجاح
د. أشجان هندي

 

مساءُ الوطنِ والتكريمِ في الوطن، ومساءُ جدة البهيّة..

مساءُ حارةِ المظلومِ مختلطاً بأنفاسِ الحمامِ، وآخذاً بجناحيّ الصغيرين يعلّمهما التحليقَ البعيدَ فوق أسطحِ المنازلِ الطيّبةِ المعجونةِ بملحِ البحرِ وعذوبةِ شموسِ (الضحويّات) والعصاري. ومسائي وأنا متدثّرةٌ فيها برطوبة الطين أكتبُ قصيدتي الأولى وأنا في التاسعةِ من عمري. مساءُ أصواتِ الأزقةِ ووجوهِ الطيبين. ومساءُ كلِ من حضر مشكورا ليقاسمَني شهدَ التكريم مغموساً فيه شكري وامتناني لراعٍ من رعاةِ الأدبِ في المملكة- راعي هذه الإثنينية الشيخ الأديب/ عبد المقصود خوجه. مساءُكم جميعا، ومساءُ أن نقتسمَ النجاح؛ فالنجاحُ ليس مُنجزاً فرديّا، بل هو منجزٌ جماعيٌّ يشترك في صنعه الجميع، ويقتسم ثمارَه الجميع (فلذيذُ العيشِ أن نقتسما).

أستاذي الفاضل: أيها العالَم - تباركَ من أبدعك - شكرا لمدرستكَ التي تعلّمتُ فيها ولم أزل كيف أكونُ أشجان. شكراً لياسمين الشجن ولورودِ الفرح، شكرا للفقدِ والحب، وللخبثِ والنقاء ،وللغربة والوطن. شكراً لعائلتي، ولأخي حسين - رحمه الله- الذي علمني كيف أكونُ الفتاةَ الواثقةَ من نفسها، كيف أفخرُ بكوني امرأة، كيف أحبُ الرجلَ أخاً، وأحترمه معلماً وزميلاً، وكيف أكون أخت حسين. شكرا لحارتي الصغيرة ولوطني الكبير. شكراً لكل إنسان علّمني كيف أكونُ إنسانة. شكراً لكل السابقين فقد صنعوني جميعا بعد الله. وإنّ ما لديّ قليلٌ والله ولكنه يكبُرُ بوجودِكم جميعاً في مشهدِ حياتي.

وكم يزيدُ روحي بهجةً أن يكون بيننا الليلة ثلاث سيدات فاضلات من معلماتي في مختلف مراحلي التعليمية. أستاذاتي: المعلمة والأم الفاضلة (حياة أبو العلا) التي احتضنت خوفَ روحي الصغيرة في المرحلة الإبتدائية؛ فتعلّمتُ فيما بعد كيف أشفُّ وأحنو، والمعلمة الفاضلة (آمنة منشي) التي علمتني في المرحلة الثانوية كيف يزدادُ الإنسانُ شموخاً كلما ازداد نقاءاً ووفاءاً وإنسانيةً، وأستاذتي سعادة الأستاذة الدكتورة الشاعرة: مريم بغدادي التي علّمتني وأنا على مقعد الدراسة في مرحلة البكالوريوس كيف أكونُ كبيرةً بالله، قويةً واثقةً بالغدِ الآتي الذي سيزورني جميلا أنيقاً بقدر ما نجتهدُ في كتابةِِِ بطاقةِ دعوتهِ إلى مستقبلنا.

وعصيٌّ على النسيانِ أستاذي في مرحلة الماجستير بجامعة الملك سعود سعادة الأستاذ الدكتور منصور الحازمي الذي أشرعَ بعذوبةٍ خلاّقةٍ في وجهي أبوابَ الإبداع فغرفتُ ولم أزل من غيومِ خبرتهِ، وعلمهِ، وخفّةِ ظلّهِ، وحضورهِ الإنسانيّ الراقي.

وللشاعر الوزير معالي الدكتور غازي القصيبي أثرٌ يظلُّ كنقشٍ لا يمّحي في كفِّ ذاكرتي الإبداعية؛ فقد توقعني شاعرةً لديها ما يختلفُ منذ اللحظة الأولى التي استمع فيها إلى شعري في أوائل ظهوري، ودعم - عن بُعد - حضوري كقلمٍ من المملكة ودافع عنه ولم يزل. علّمني هذا الشاعرُ كيف أكونُ قويةً مُعتزّةً بمنجزي. كيف لا أدورُ فقط في فلك المناطقيّة والمحليّة، وكيف أمضي في طريقي بثقةِ فتاةٍ من المملكة تؤمن بوطنها وبقدرته الفعلية على منافسةِ الآخر والتفوّقِ عليه أيضاً في كل الميادين. القصيبي علمني أن عبارة (أن تحبَ وطنك) تعني أن تخلصَ لإبداعك ولمنجزك في أي حقلٍ تكونُ فيه.

لم تكن طريقُ جمعِ الخبراتِ والتجاربِ التي مشيتُها - ولم أزل - ممهدةٌ؛ فقد آذتْ روحي مطبّاتُها الطبيعية والاصطناعية بقدر ما أسهمت في تشكيلي كشاعرة وأستاذة جامعيّة. وإني أحمد الله أولاً وأجدد امتناني لوطني ممثلاً في وزارة التعليم العالي أن هيّأت لي فرصةً- مُستحقةً لمن يطلب العلم- لدراسة الدكتوراه خارج الوطن. هناك في لندن حيث تعلّمتُ أنّ الآخر الذي قد لا يُشبهني يحملُ معه خيرَهُ وشرّه مثلي تماماً فجميعنا بشر. وأنّ أرضَ الله أرضٌ لجميع خلقِه يتبادلون فيها الخبراتِ والمعارف، ويقتسمون فيها السلامَ والانسجام ما حافظوا فيها على الحقوقِ والواجباتِ والنظام. في لندن ازدادت ثقتي بنفسي وتعلّمتُ أن الغريبَ عن ميدان تبادل الخبرات الإنسانية والعلمية والإبداعية كمنجز إنساني مشترك بين خلق الله يظلُّ غريباً حتى وهو يعيشُ في وطنه. الحياةُ هناك علّمتني أن الآخرَ يراكَ من المكانِ الذي تضعُ أنتَ نفسكَ فيه.

الطبيعةُ في بريطانيا علّمتني كيف أنصتُ بهدوءٍ إلى إيقاع روحي الداخلي وأنسجمُ معه، وكيف أتذوقُ الإبداعَ في لغةٍ أخرى غير لغتي الأم، ولكنها لم تهبني الكثيرَ من تجليّات لحظةِ كتابةِ القصيدة؛ فأجملُ ما كتبته في تقديري- من قصائد لم أكتبه إلا وأنا في المملكة.

في لندن أنجزتُ بحثي للدكتوراه في تخصص الأدب العربي الحديث، وحصلتُ على توصية بطباعته من جامعة لندن، ولكنني عدتُ بعدها إلى المملكة فسرقتني شراسةُ دوّامةِ العم ل، ولم أكمل إجراءاتِ طباعته. في هذا البحث تناولت برؤيةٍ نقدية شعرَ ثمانٍ وعشرين شاعرةً معاصرةً من المملكة العربية السعودية واليمن والخليج العربي، وسلطتُ الضوءَ من خلالِ قصائدهن- على علاقتهنّ بالتراث الذي يُمثّل الماضي (الذات - الأنا) الذاكرة الجمعية في مقابلِ علاقتِهن بالحاضرِ الذي يعيشنه، والذي يمثلُ الأنا والآخر. وقد توصّلت في ذلك إلى نتائج طيبة ستنشر مع هذا البحث في كتاب قريبا بإذن الله.

أمّا جميعُ المشاركات الثقافية والشعرية الخارجية الكثيرة التي تشرّفتُ فيها بتمثيلي لوطني، والتي شاركتُ في أكثرها بل أغلبها بدعواتٍ وصلتني وتصلني من خارج الوطن؛ فإنني أهدي أي نجاح قد أكون حصدته فيها إلى وطني وإلى كل من فيه وأتشرفُ بذلك، لأنّ إيماني الراسخ هو العملُ بروحِ الفريق لا بروحِ الفرد. وبنفسجُ سعادتي حين أُعرّفُ في هذه المشاركات لا بصفتي الشخصية بل بأني شاعرة أو مثقفة من السعودية؛ فأشعر وقتها بأنني أكثر من أشجان. وهل يكونُ الفردُ كثيراً إلا بالجماعة؟ وهل أكونُ إلا بكم؟ فلكم ولحارة المظلوم أهدي هذا التكريم.

ولعلي أفشي سراً خاصّا عني الليلة - لا تعرفه إلا عائلتي- وذلك إن قلت: إنني مقلةٌ جداً في الخروج من المنزل في جدة. فإن خرجتُ لا أكونُ إلا في البلد- في جدة القديمة؛ أشمُّ رائحةَ أزقتها؛ فتصفو روحي وتنجلي وحشتُها.

أشكرُ حضورَكم الباذخَ بهاءا، المُترعَ أناقةً وجلالاً إنسانيا. ولتدُم ثقافةُ التكريمِ في وطني سنديانةً خضراء ما دام الليلُ والنهار. وقبل أن أختم بقصيدةٍ كتبتُها فيمن أهوى. سأقفُ بآياتٍ لا يُفارقُ لساني وروحي تكرارها أبدا (والضحى والليل إذا سجى. ما ودّعك ربُّك وما قلى. وللآخرةُ خيرٌ لك من الأولى. ولسوف يُعطيكَ ربُّكَ فترضى. ألم يجدك يتيماً فآوى. ووجدكَ ضالاً فهدى. ووجدك عائلاً فأغنى. فأمّا اليتمَ فلا تقهر. وأمّا السائلَ فلا تنهر. وأمّا بنعمة ربك فحدّث). صدق الله العظيم. سبحانك إلهي وسيدي ومولاي عاجزةٌ أنا عن شكرِ فضلك عليّ حتى ألقى وجهكَ الكريم.

أجدد شكري لصاحب الإثنينية الشيخ/ عبد المقصود خوجة، ولثمانٍ وعشرين عاماً أسهمت فيها إثنينيتُهُ في تأسيسِ وتأكيدِ بهاءَ ثقافةِ التكريمِ في المملكة. وإنني لبانتظارِ أن يُكرّم الوطنُ حقول العطاءِ الإنسانيّ.

والوطنُ كريمٌ ونحن جميعاً - بإذن الله- نستحقهُ ونستحقُّ عطاءه.

جانب من الكلمة التي ألقتها د. اشجان هندي خلال تكريمها في اثنينية خوجة



 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد