Al Jazirah NewsPaper Thursday  19/11/2009 G Issue 13566
الخميس 02 ذو الحجة 1430   العدد  13566
مصطفى محمود.. ثالث الفرسان الذين ترجّلوا

 

زهير الأيوبي :

وهكذا ودّعنا في الأيام الأخيرة الماضية ثالث ثلاثة امتطوا صهوة الإعلام التلفزيوني في الأربعين سنة الماضية، امتطوها بلا منازع، وتألقوا على شاشته دون مزاحم، وكانوا ولا يزالون حديث الناس، ومهوى أفئدتهم ومدار حواراتهم، ومحور ذكرياتهم المحببة.

رحل الدكتور (مصطفى محمود) ورحل من قبله الشيخ (علي الطنطاوي).. ورحل كذلك الشيخ (محمد متولي الشعراوي)، عليهم رحمات الله، ولهم بإذنه وجوده وكرمه فراديسه العليا، وجناته العظمى.

كان الشيخ (علي الطنطاوي) إذا تحدث أو ظهر في التلفزيون أصغى إليه الرجال والنساء والأطفال لا يحبون أن يقطع إصغاءهم إليه أحد!

وكان الشيخ (محمد متولي الشعراوي) إذا استعرض خواطره الرائعة عن القرآن الكريم شدّ إليه عالم الشريعة، وطالب العلم والمثقف حتى لو كان غير متدين، وحلّق بهم في آفاق المعرفة والعلم وغاص بهم في أعماقهما ليظفروا بحقائق الإيمان وجواهر اليقين!

وكان الدكتور (مصطفى محمود) إذا تحدث عن الإيمان تحدث وفي جعبته وفي كلامه وفي مخيلته عشرات الحقائق العلمية، والظواهر الكونية، ونواميس الأرض والسماء، التي تثبت أن الله سبحانه وتعالى هو خالق الكون ومدبره وقيومه، وانه جل جلاله هو الواحد الأحد، وأنه اللطيف بعباده، وأنه الرزاق الحنّان، الجليل الكريم، العزيز الحكيم، وأنه جلّ جلاله هو قديم الإحسان!

لقد كانت السنوات الأربعون الماضية غنية جداً، وعظيمة جداً بوجود هؤلاء الفرسان الثلاثة الدعاة إلى الله، يتنافسون من على شاشات التلفزيونات العربية في الدعوة إلى الله على بصيرة، والمجادلة بالتي هي أحسن، كل بأسلوبه وطريقته، وكل بمنهجه وما آتاه الله إياه من العلم والبيان وسبل الإقناع.

لقد كان (الطنطاوي) عليه رحمة الله يدعو إلى الله من خلفية سلفية لا مذهبية واضحة جلية..

وكان (الشعراوي) عليه رحمة الله يدعو إلى الله من خلفية صوفية ملتزمة بكتاب الله وسنّة رسوله.. وكان (مصطفى محمود) - عليه رحمة الله - يدعو إلى الله من خلفية علمية، يسلط فيها الأضواء على آيات الله في كونه العظيم التي تدل على وحدانيته وعظمته وحكمته وجلاله.

وكأن هؤلاء الثلاثة كانوا يكملون بعضهم البعض في غاياتهم ومقاصدهم، ولذلك ما كنت تشعر وأنت تتابعهم بتناقض أو تكرار، أو تنافر مخل، أو تصادم يبعث في نفسك التوتر أو القلق أو الشعور بضياع الوقت.

* * *

وُلد الدكتور (مصطفى محمود) عليه رحمات الله في عام ألف وتسع مائة وواحد وعشرين أي بعد الحرب العالمية الأولى بقليل، وعاش ثمانية وثمانين عاماً، من أسرة تعود في نسبها إلى (الأشراف) المنحدرين من نسل (الحسين بن علي) رضي الله عنهما وقد كان يعتز ويفتخر بهذا النسب، وقد شاء الله له أن ينتج خلال عمره الطويل ما يقارب تسعين كتاباً في الدين والفلسفة والتاريخ والاجتماع وكل مسارب الحياة، ولو وزعنا هذا العدد الكبير من الكتب على سني حياته لاستنتجنا أنه كان يؤلف في كل سنة من سنوات حياته كتاباً أو أكثر منذ ولادته وحتى رحيله عن هذه الدنيا.. وهذا شيء عظيم، وإنتاج كبير قلّ أن يصل إليه غيره في كتّابنا المعاصرين.

وسيصيبنا العجب، وتأخذنا الدهشة عندما نعلم أن الدكتور مصطفى محمود ألّف ما ألفّ، وكتب ما كتب، وأنتج للتلفزيون ما أنتج، ولم يكن في حالة صحية جيدة، بل كان في أكثر سني حياته يعاني من الأمراض والأوجاع والأسقام! فقد ذكر ابنه أدهم أنّ أباه قد أجرى في حياته الطويلة تلك إحدى وعشرين عملية جراحية، طال بعضها الرقبة والمخ، وتناول بعضها القلب في عملية جراحية كبيرة، واستأصل بعضها جانباً من أمعائه!

والغريب العجيب أنه كان لا يحلو له إلاّ أن يكتب من على سريره الذي كان ينام عليه واضعاً على إحدى رجليه قريباً من ركبته لوحاً خشبياً، يسطر على الورق من فوقه الأفكار التي تدور في رأسه والخواطر التي تلوح أمام عينيه.. لقد كان يجلس الجلسة الطويلة للكتابة على تلك الحال، لا يزحزحه من مكانه، ولا يبعده عن غرفته إلا فريضة يؤديها أو طعام يأكله أو القيام بحاجة ضرورية لابد منها!

* * *

لم يكن الدكتور (مصطفى محمود) على وفاق مع المرأة كزوجة. فلم يتمكن من التعايش معها أو لم تتمكن هي من التعايش معه، فقد جرّب الزواج مرتين وانتهت تلك التجربة المكررة بالفشل!

فقد تزوج أول ما تزوج في عام ألف وتسع مائة وستين وكان عمره تسعة وثلاثين عاماً، أي كان متأخراً في زواجه وأنجب من ذلك الزواج ولديه أدهم وأمل غير أن ذلك الزواج انتهى بعد ثلاثة عشر عاماً بالطلاق! ولم يكرر هذه التجربة إلاّ في عام ألف وتسع مائة وثمانين! إلاّ أنّ زواجه الثاني ذلك لم يدم أكثر من سنتين مع الأسف، وأمضى بقية حياته وحيداً دونما زوجة!

ولعلّ هذه التجربة الفاشلة في الزواج تثبت أنّ (مصطفى محمود) عليه رحمة الله، كان (فنّاناً) غريب الأطوار له تصرفات غير مألوفة، كأكثر الفنانين العباقرة الذين يحتاج الواحد منهم الى امرأة تتحلى بالكثير من الصبر وتتمتع بوساعة الصدر، وعندها طاقة كبيرة في القدرة على التحمل!

* * *

وعلى الرغم من مؤلفاته العديدة، ومسرحياته الكثيرة، وبرامجه التلفزيونية الكثيرة وفي طليعتها برنامج (العلم والإيمان) الذين تشرفت (الشركة العربية للإنتاج الإعلامي) التي يمتلكها الشيخ (صالح كامل) بإنتاج حلقاته سنوات عديدة، قبل أن يقوم الدكتور (مصطفى محمود) بإنتاج حلقات هذا البرنامج بنفسه في السنوات الأخيرة من حياته.

على الرغم من تلك المؤلّفات، والمسرحيات، وبرامج التلفزيون وخاصة برنامج (العلم والإيمان) الذي كان يبذل في سبيل إنتاجه الكثير من الجهد والعمل والدقة في الاختيار عند إعداد حلقاته، وخاصة العمل على الحصول على الأفلام العلمية والوثائقية التي يُصدق بها خواطره الإيمانية، ويؤكد فيها النتائج التي توصل إليها، ويتحقق من خلالها توافق معطيات العلم ونتائجه القطعية مع حقائق الإيمان.

على الرغم من كل ذلك، فقد اعتبر الدكتور (مصطفى محمود) أن تلك المؤلفات والمسرحيات والبرامج التلفزيونية تدخل في أهداف قول الله تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا} (70) سورة الأحزاب. إنها تدخل في تلك الأهداف إن كان صاحبها مخلصاً فيما يقول.

أما ميدان الفعل والتصرف العملي - كما يقول الدكتور مصطفى محمود - فلا تكفي فيه الآثار المكتوبة، والمسرحيات المؤلفة والبرامج التلفزيونية المشاهدة. ولا بد للإنسان المسلم من أن يقوم بالأعمال التي يطعم من خلالها الجائع، ويكفل اليتيم، ويرعى الأرملة ويعلم الجاهل، ويداوي المريض ولذلك فقد سعى ونجح في مسعاه إلى إقامة (مجمع الدكتور مصطفى محمود) منذ سنوات كثيرة، وقد احتوى ذلك المجمع على مسجد جامع كبير، وقاعة للمحاضرات والاجتماعات، ومكتبة، وثلاثة مراكز صحية تعالج كل الحالات المرضية التي تعتري بني الإنسان بأقل من نصف التكاليف في المراكز والعيادات والمشافي الطبية الأخرى، كذلك يتبع ذلك (المجمع) قوافل طبية متنقلة هي (قوافل الرحمة) وفي تلك القوافل ستة عشر طبيباً تشمل كل التخصصات وفي هذا المركز أربعة مراصد فلكية عاملة.

* * *

كان الموسيقار (محمد عبدالوهاب) عليه رحمة الله من معارف وأصدقاء الدكتور (مصطفى محمود) ولطالما تحاورا في أهمية مؤلفاته ومسرحياته وبرامجه التلفزيونية من جهة والأناشيد والألحان والأوبريتات التي أنتجها محمد عبدالوهاب من جهة ثانية.

فقد كان رأي الدكتور (مصطفى محمود) أن تلك المؤلفات والبرامج، وتلك الأناشيد والألحان تدخل في باب قول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا} (70) سورة الأحزاب. إن كان الإخلاص لله وراءها وأنه لا بد من العمل إلى جانبها إطعاماً لجائع أو كفالة ليتيم، أو رعاية لأرملة، أو مداواة لمريض، أو تعليماً لجاهل...

وكان رأي الموسيقار (محمد عبدالوهاب) أنّ تلك المؤلفات والبرامج والأناشيد والألحان لا تغطي جانب (القول السديد) فقط ولكنها تغطي أيضا جانب الفعل المشكور والعمل المبرور!!

* * *

لم يكن (مصطفى محمود) على وفاق تام مع الرئيس (جمال عبدالناصر) - رحمه الله -، وربما كان ذلك بسبب حبه للحرية وتقديسه للديموقراطية، وحرصه على ترك العنان لكل إنسان ليتمكن من تفجير طاقاته وإظهار مواهبه.

ولكنه كان صديقاً مقرباً من الرئيس (محمد أنور السادات) - عليه رحمة الله -، وقد عرض عليه أن يكون وزيراً لكنه اعتذر، وعرض ذلك على الشيخ (محمد متولي الشعراوي) - عليه رحمة الله - صديقه المقرب الآخر، فقبل وعمل وزيراً (للأوقاف) فترة من الزمن ثم ما لبث أن ترك الوزارة وهو فرح بأنه لم يستمر فيها، وأنه لن يعود إليها.

وقد كان من حسنات الرئيس السادات أنه كان يحرص على لقاء عدد من العلماء والأدباء والمفكرين والإعلاميين وأصحاب الخبرة بصورة دورية شهرية، وكان من بين هؤلاء الشيخ (الشعراوي) والدكتور (مصطفى محمود) عليهما رحمات الله، والحقيقة أن الحاكم العاقل الذي يتوخى أن يحقق العدالة في شعبه، ويحرص على الالتفات إلى المستجدات في زمانه، هو الذي يسعى إلى الاجتماع بصورة دائمة إلى الفضلاء العقلاء الحكماء من بني وطنه ومن بني قومه ودينه، فيصغي إلى آرائهم، ويتبادل معهم الأفكار، ويعمل بما يقدمونه من نصائح.

لقد كان الملك (فيصل بن عبدالعزيز) - عليه رحمات الله - يقدر فيمن يقدر، ويحترم فيمن يحترم الشيخ علي الطنطاوي عليه رحمات الله، فقد أخبرني واحد من جلساء الملك بأنه كان في مجلسه في أحد أيام الجمعة، وكان الشيخ (علي الطنطاوي) يتحدث في برنامجه (نور وهداية).. وإذا بالشيخ تتحرك شفتاه بكلمات دون أن تسمع، فالتفت الملك عليه - رحمه الله - إلى مسؤول كبير في الإعلام كان حاضراً في تلك الجلسة وقال: ما هذا؟ فأجابه المسؤول: لعلّ الشيخ تكلم بعبارات لم يجزها المراقب الديني في التلفزيون.. فأجابه الملك على الفور: هل يوجد عندكم في الإذاعة والتلفزيون من يفهم في الدين أكثر من (الشيخ الطنطاوي)؟! فسكت المسؤول ولم يحر جواباً.. وعندما انصرف من جلسة الملك توجه إلى مكتبه وأصدر أمراً بأن أحاديث الشيخ (الطنطاوي) وبرامجه الإذاعية والتلفزيونية تذاع وتعرض بعد تسجيلها، وأنها لا تحتاج إلى رقابة!!

***

كان (مصطفى محمود) يعشق صوت (الناي) وأن تقاسيمه كثيراً ما عبّرت عن مكنونات النفس وساهمت في طمأنينة القلب وسبحت بالمستمع المصغي في جوانح الخيال.. وقد اختار لبرنامجه التلفزيوني (العلم والإيمان) بعض تقاسيم ناي (محمود عفت) عازف الناي الشهير..

وكان أيضا يجيد العزف على (العود) على (عوده) الذي احتفظ به طيلة حياته.. وكان (محمد عبدالوهاب) كثيراً ما يستمع إلى عزف الدكتور (مصطفى محمود) على العود، ويقول له: لو أنك اخترت أن تكون في حياتك مطرباً لكنت مطرباً جيداً جداً متميزاً ذا شأن!

* * *

كان للدكتور (مصطفى محمود) صداقات كثيرة مع الفنانين، بالإضافة إلى (محمد عبدالوهاب) كان عليه رحمة الله صديقاً ل(شادية) و(سعاد حسني) و(مديحة كامل).. وقد سمعت منه في أحد حواراته أن الفنانة السيدة (شادية) تبرعت للمجمع الذي يقوم عليه بشقة كبيرة، وقد خصصت لتكون عيادة لاستقبال ومعالجة مرضى السرطان! وأن هذه الشقة تقدر قيمتها بست مائة ألف جنيه!!

وعلى ذكر هذا المجمع الكبير الذي أقامه وأشرف على إنجازه الدكتور (مصطفى محمود)، فقد تكلف حوالي تسعين مليون جنيه تبرع بسبعين بالمائة من هذا المبلغ الإخوة المصريون، وتبرع بالباقي محبو الدكتور (مصطفى محمود) المنتشرون في أرجاء العالم العربي والإسلامي.

* * *

الجدير بالذكر أن صحيفتنا الغالية (الجزيرة) تذكّرتْ كعادتها الأديب العالم الفيلسوف الطبيب الداعي إلى الله على بصيرة الدكتور (مصطفى محمود) في حياته، فخصصت له عدداً من أعداد مجلتها الأسبوعية (الثقافية) قبل أقل من سنتين وكان الحديث في ذلك العدد يدور حول شخصيته (مصطفى محمود) وعطاءاته الفكرية والعلمية والدعوية من خلال كتابات عدد كبير من الشخصيات الأدبية والفكرية والإعلامية.

* * *

انتقل (مصطفى محمود) عليه رحمات الله إلى رحاب الله وهو يمتطي صهوة جواد الفكر، وفي يده قلمه يسطر به كلماته الخيّرة، وفي يده الأخرى مشروعه الدعوي الإنساني وقد تم إنجازه، واكتملت حلقاته ولله الحمد والمنّة.

انتقل (مصطفى محمود) إلى جوار ربه، وقد خلّف وراءه إرثاً عظيماً، وملكاً كبيراً، وكثيراً من الباقيات الصالحات خلّف وراءه ابنه (أدهم) وابنته (أمل)..

وخلّف وراءه حوالي تسعين كتاباً تحتوي على الكثير الكثير من الكلام الصادق، والعبارات المخلصة والنتائج الباهرة...

وخلّف وراءه أكثر من أربع مائة حلقة من برنامجه التلفزيوني (العلم والإيمان) الذي أحبه الناس جميعاً والذي أصغى إليه وانتفع به الناس جميعاً، والذي لم يترك بيتاً من البيوت في عالمنا العربي وفي غيره، إلا ودخل إليه وأثّر في عقول وقلوب أفراده.

وخلّف وراءه مجمعه بكل أجزائه وأقسامه، وكل دعاته ومعلميه وأطبائه، وكل مريديه ومحبيه الذين يذكرونه بالخير، ولا ينسون فضله وعطاءه وعمله الذي لا ينقطع..

خلّف وراءه كذلك شيئين صغيرين كان لا يستغني عنهما، ولا تطيب له الحياة من دونهما،

أولهما (الطبلية).. اللوح الخشبي الذي كان يضعه على ركبته وهو على سريره، يسطر على الورق من فوقه أحلى ما كتب، وأجمل ما صاغ وألّف.

والثاني.. (العود).. عوده الذي عزف عليه أجمل الألحان، وأعذب المقطوعات، وخاصة حينما كان يجلس لوحده، ويخلد إلى نفسه بعيداً عن الناس.



z_aiayoubi@hotmail.com

 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد