Al Jazirah NewsPaper Monday  16/11/2009 G Issue 13563
الأثنين 28 ذو القعدة 1430   العدد  13563
بين الكلمات
باب في المساكين ومنزلتهم
عبد العزيز السماري

 

لا أخفي إعجابي بمثابرة الشيخ الدكتور النجيمي، وقدرته على ممارسة سباق التتابع دون تعب لمن يجد في قوله مخالفة للأصول الإسلامية، لكن ذلك الإصرار والتتابع قد يكون أحياناً أسيراً للفهم غير الصحيح للآخر؛ إذ كنت دائماً ما أشير إلى أن الفقهاء وبعض علماء الدين ساهموا في إخفاء بزوغ العلوم التجريبية عند المسلمين، وضربت الأمثلة على ذلك، وهو قول يختلف تماماً عن أن الإسلام لا يتعارض مع العلوم التجريبية أو الفلسفة الوضعية، وأنا لن أختلف معه في الرأي الثاني، وهو أن الإسلام في روحه ونصوصه وأصوله لا يتعارض مع الفلسفة الوضعية، بل إنني أتفق معه وأطالب بترسيخ هذا المفهوم في المناهج التعليمية..

أما ما أورده في رده الأخير يوم الجمعة الماضية عن الإقصاء والليبرالية فقد تناولته في أكثر من مقال، وأرجو منه إعادة قراءتها مرة أخرى.. إذ سيكون من الممل أن أعيد ما كتبته في السابق، فحديثي عن متلازمة الإقصاء الديني كان ابتداءً من فترة إقصاء المأمون لأهل الحديث إلى زمن الوثيقة القادرية ضد المخالفين من العقائد الأخرى.. وإن لم يجد فيه الأجوبة الشافية عدنا إليها بصدر رحب..

لفت نظري في ثنايا رده الأخير، نعته لشخصي المتواضع بعبارة (يا مسكين)، وبقدر ما كنت أحاول تجنب في حواراتي إطلاق الصفات أو النعوت على الآخرين، تفاجأت بإطلاقه صفة المسكين عليّ، كذلك أطلقها الشيخ على العامة عندما قال في رده الأخير: (جماعة العقلانيين المتحررين هم من يشغب دائماً ويقيم الفتنة ويحرك العامة المساكين بتدليس القول عليهم)، وبما أنني أحد هؤلاء المساكين يسمح لي الدكتور النجيمي أن أخرج قليلاً عن ذلك الموضوع الممل، والذي سأم القارئ تكراره، وأن أبحث عن منزلة المساكين وصفاتهم، وعن أصل كلمة المسكين، وذلك لإيماني أن اللغة العربية ليست مجرد لغة، ولكنها تتجاوز ذلك إلى أن تكون فلسفة تخفي بين جذورها المعاني العميقة..

بحثت في لسان العرب وجدت أن جذر المسكين هو السُّكُونُ: الذي ضدّ الحركة، ويُقال سَكَنَ الشيءُ يَسْكُنُ سُكوناً إذا ذهبت حركته، وكل ما هَدَأَ فقد سَكَن كالريح والحَرّ والبرد.. ومنها أيضا جاء ربط السِّكِّينَة بالسِّكِّين، وقال ابن دريد: السِّكِّين من ذَبَحْتُ الشيءَ حتى سكن اضطرابه؛ وقال الأَزهري: سميت سِكِّيناً لأَنها تُسَكَّنُ الذبيحة أَي تُسَكنها بالموت. وكل شيء مات فقد سَكَنَ، والمسكين هو المذبوح بسكين الفقر والحاجة والوهن حتى صار لا حراك له.. ويُقال سَكَنَ بالمكان يَسْكُنُ سُكْنَى وسُكُوناً: أي أَقام؛ وأَسْكَنه إياه وسَكَنْتُ داري وأَسْكَنْتها غيري، والاسم منه السُّكْنَى، والسُّكْنَى أَن يُسْكِنَ الرجلَ موضعاً بلا كِرْوَة، وقال اللحياني: والسَّكَن أيضا سُكْنَى الرجل في الدار..

أما (السِكْني) بكسر السين عند أهل نجد، فهو الجني الذي يسكن جسد الإنسان ولا يخرج منه، وقد يكون سبباً للأمراض العضوية والنفسية، وهو قول يعارض السببية والعلوم التجريبية، ويؤصل بعض الفقهاء دينياً سكناه في جسد الإنسان، ويكون علاجه بضرب المسكون أو المسكين وخنقه ثم كيه بالحديد والنار حتى يخرج الجني أو يموت مسكيناً أو مذبوحاً..والتَّسْكين: أَن يدوم الرجل على ركوب السُّكَيْنِ، وهو الحمار الخفيف السريع، والأَتانُ إذا كانت كذلك سُكَيْنة، وسميت أيضا الجارية الخفيفة الرُّوح سُكَيْنة، ويدخل الحمار الخفيف والجارية في المسكنة، ومنها المسكين: الذي لا شيء له، وقيل: الذي لا شيء له يكفي عياله، وقال أبو إسحاق المسكين الذي أَسْكَنه أو ذبحه الفقرُ حتى قَلَّلَ حركتَه..

وقد كتب الطاهر بن جلون رواية (نزل المساكين) التي تعد رمزاً لما يحدث في العالم الآن من مآس، وما لوثها من الصراعات وبشاعة الفرد والجماعة.. يقول ابن جلون: نزل المساكين، نزل غرقى الحياة، وساحة لتجمع اللصوص أو بعض الأشخاص الذين ضربتهم اللعنة، يقبعون فيه ليدفعوا ثمن أخطائهم.. وكتب محمد صادق الرافعي كتاب (المساكين) وضمت أوراقه سيلاً من العبارات التي تحكي الهوة بين الفقر والغنى وما إليهما من آثار قاتلة ومذلة على العامة، حتى تصيبهم السكينة أو يُذبحون بالفقر والاستبداد حتى يصبحون لا حراك فيهم، وكذلك كتب علي بن أحمد الحموي مخطوطة بعنوان (زاد المساكين إلى منازل السالكين)، وأن مخالطة المساكين تذهب الكبر الترياق ومجالسة الجاهلين تزيد الجهل..

كما أن للشارع حكمة في كثرة عدد المساكين في الكفارات، حتى بلغ في بعضها ستين مسكيناً، وذلك كفرض للتخفيف من معاناة المساكين وحاجتهم للطاقة من أجل أن يتحركوا في طلب العيش، وقد كانت أم المساكين أم المؤمنين زينب بنت خزيمة بن الحارث الهلالية، وكان جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه أبا المساكين..

و في الصحيحين من حديث أسامة بن زيد رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (قمت على باب الجنة، فكان عامة من دخلها المساكين، وأصاحب الجَدّ محبوسون)، وما رواه البخاري ومسلم من حديث حارثة بن وهب قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (ألا أخبركم بأهل الجنة: كل ضعيف متضعِّف، لو أقسم على الله لأبره، الا أخبركم بأهل النار: كل عتل جواظ مستكبر)...

وبما أني أحد المساكين، أحمد الله الذي رفع منزلتهم بدينه وخصهم بذكره في كتابه المحكمة آياته.




 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد