Al Jazirah NewsPaper Monday  16/11/2009 G Issue 13563
الأثنين 28 ذو القعدة 1430   العدد  13563

ثقافة الاعتذار
د. موسى بن عيسى العويس

 

* في الحياة كثيرة هي تلك الدواعي والأسباب والمواقف التي تستوجب العتب من الإنسان لأخيه، وعلى قدر العلاقات وتشعبها عند المرء تبدر منه العديد من السلوكيات، سواء عمد إلى ذلك، أوجاءت عفوية، لكن قد يساء فهمها أو تحتاج إلى تحرير،

والاعتذار إحدى الوسائل التي تستبقي وسائل التواصل والاتصال بين البشر، وهي ثقافة متأصلة وضاربة الجذور في المجتمع العربي وثقافته، بل إنها عدت إحدى الخصال أو السمات الحميدة عندهم، وربما امتازوا بها عن غيرهم، رغم أن أدبياتهم في الحوار حثت الإنسان على الابتعاد عما يجره إلى الاعتذار من الناس، وذلك بالأخذ بأسباب النجاة من الخطل، أو الزلل في الحديث، حتى إنهم آثروا الصمت في كثير من المواقف على الخوض في الأحاديث، ورأوا في ذلك علامة من علامات الحكمة في بعض البشر، وأحسب أن ذلك منبعه رهافة الحس، والحدة في الطباع عند العرب، فتأنف نفوسهم عما يجرها إلى ما يصادمها.

* والاعتذار وإن كان محموداً بين سائر الناس بمختلف طبقاتهم، إلا أنه قد يكون مندوباً إليه بشكل خاص حينما يأتي من الصغير للكبير، أو لصاحب الجاه والسلطان، وذوي المقامات والهيئات. وبطبيعةالحال فإن التحول في العلاقات، أو التباين في وجهات النظر، وسوء التقدير للمواقف والاختلاف في فهمها للسياقات تحمل الإنسان على ركوب هذا الباب، أو بتعبير أدق على ولوجه.

* من الطبيعي كذلك أن تجدّ أمام الإنسان بعض ظروف الحياة التي تؤدي إلى الانقطاع، وتحرمه متعة الوصال مع محبيه وأصدقائه وجلسائه، وقد لا يستطيع إفشاءها أحيانا، وقد تكون مثل هذه الفجوات أو الثغرات في مسيرة الحياة وسيلة، أو فرصة للوشاة، والطامعين، والمرتزقة، والانتهازيين، وبخاصة متى كان ذلك في بلاط علية القوم. وجميعنا يشهد (للنابغة الذبياني) لطائفه الأدبية في هذا الموضوع، وابتكاراته في الصياغة التي يحتذيها الكثير حين تتشابه ظروفهم مع ظروفه، والأدب الخالد هو الذي يبقى توظفه الأجيال وتتوارثه، وقد سارت شوارده وشواهده مع (النعمان بن المنذر) على السن، بما حوته تلك الفرائد من أدب جم، ملك جميع القلوب، واستطاع أن يزيل الرواسب العالقة في النفوس, لنقف على مقتطفات من تلك الالتفاتات التي تنضح بالتقدير لملوكه، حين يقول:

حلفتُ فلم أترك لنفسك ريبةً

وليس وراء الله للمرء مذهبُ

فلاتتركنّي بالوعيد كأنني

إلى الناس مطليٌ به القار أجربُ

* وتزداد الفجوة، ويشتد به الوجد، ويذهب إلى ماهو أبعد من ذلك في التودد:

لكلفتني ذنب امرئ وتركته

كذا العرّ يكوى غيره، وهو راتعُ

أتوعدُ عبداً لم يخنك أمانةً

وتترك عبداً ظالماً، وهو ظالعُ

وأنت ربيعٌ ينعش الناس سيبه

وسيف أعيرته المنية قاطعُ

* بهذا الأسلوب تزداد الثقة بين المتنافرين أحيانا، وتقل مساحات الاختلاف وتضيع الفرصة أمام من ينتهز مثل هذه الظروف، ومتى امتلكت كافة الأطراف ثقافة العتب والاعتذار وأدبياته ارتقت بذائقتها وأسلوبها في التعامل والتخاطب مع البشر، مهما كانت أعراقهم. ا-هـ

dr_alawees@hotmail.com

 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد