يعيش الناسُ في بلادي هذه الأيام بلا استثناء، حالةً من الخوف والقلق، بسبب ظاهرة (حمَّى الخنازير)، ويعززُ ذلك الخوفَ (حمَّى) من نوع آخر، هي (فتنةُ الإشاعات) حول هذا المرض، سبباً وأعرْاضاً ووقايةً!
**
* لكنَّ الناسَ في بلادي أيضاً، وبلا استثناء تقريباً، ينسَون أو يتناسون (حُمّى) من نوع آخر تعيثُ في شوارعنا وتَعبثُ بأرواحنا يومياً منذُ زمن طويل، قتْلاً وتشويهاً وإعاقةً، تلكم هي حوادثُ المرور التي تكاد تفوقُ وقائِعُها وفواجعُها المؤلمةُ يومياً ويلاتِ بعض الحروب والفتن المعاصرة، كمّاً وكيفاً!
**
* لقد نمتْ هذه الحوادثُ في الآونة الأخيرة نُموّاً مثيراً يطْغَى ذكرُه على أحداث الساعة، عربياً ودولياً، وبات المرءُ منّا في مدينة مُتْخَمة بالسيارات كالرياض، يَخْشَى على نفسه وأهله ليلاً ونهاراً، سواءً قاد عربته أو قادها سواه نيابةً عنه!
**
* كتَبتُ مراتٍ، وفَعَل سواي خيراً مِمَّا فعلتُ حول هذا الموضوع، لكن ما جدوى الكتابة إذا كانت لا تُسْدِي خيراً.. ولا تُجِدي نفْعاً؟! ولنْ أكرّس هنا اللومَ كلَّه لأجهزة المرور دون سواها؛ فهي تجتهدُ كثيراً وتفْعلُ كثيراً، ولها من اجتهادِها وفعْلهِا أكثرُ من نصيب، وهي ليستْ في كل الأحوال منزَّهةً مِن الخطأ، تساهُلاً أو تقْصيراً، لكنِّي أكادُ أجزمُ أنَّ لها في بعضِ الأحوال عُذْراً، والناسُ يلومون! ومَنْ شاء تَفْسيراً لهذا القول أو تأويلاً فليسألْ أهلَ المرور أنفسَهم كما فعلتُ أنا، أكثر من مرة، ولن أنسى تعليقَ أحدِهم ذاتَ يومٍ ردَّاً على سؤالي إذْ قال: أُسلِّم بكثير مما تكتبُ وتقولُ عن أداء المرور في التصدي للحوادث.. لكنّنا بدورنا نُعاني من فتنة (الواسطة)، ولو كان لنا منها حصانة، لكانت لنا هيبة ترْدعُ قاطعَ الإشارة، ومَنْ في حكمه عن (عابري القارات) في الشوارِع!
**
* إذاً، فللمُرور نصيبٌ من حقّ، مثلما أنَّ لهُ قدراً من عَتَب، لكن الأهمَّ من هذا كله ألا يتحول الجمهورُ، في نظر المرور أو العكس إلى (شماعة) تُعلَّقُ عليها الأخطاءُ، ويُسْقط العتَبُ، فكلاهما شريكان في فتنة حوادث الشوارع!
كيف؟
* يُخطِئُ المرور مرات حين يغيبُ أفرادُه حضوراً وهيبةً وردعاً عن شارع يعاني فتنة الزحام لأيّ سبب، قلّ أو جلّ!
* ويُخطِئُ الجمهورُ مراتٍ:
* مرةً بغفلته حين يُسلّم حَدَثاً غراً سيارةً لا يُحسِنُ قيادتها فناً ولا خلقاً.
* ومرةً: بأسلوب تعامله مع خطأ مرتكبِ الحادث.. فيرفض العقابَ، ويقاومَ الردع.
* ومرة: حين يَعتذرُ لقائد المركبةِ الحدثِ محتجاً بأنه صغير لا يعي من أمره شيئاً، فإن نالَ مرادَه، وإلاّ لجأ إلى (ذي جاه) يلتمسُ منه الشفاعة لتطويقِ الحادثِ لصَالح ابنِه أو قريبِه!
**
* لهذه الأسباب وغيرها، تنمُو حوادثُ المرور وتَسْتَعرُ! وترتيباً على هذه الأسباب.. يجدُ المرور نفسه أحياناً عاجزاً عن التعامل مع حوادث الشارع بالقدر الذي يتمنَّاه الأسوياءُ من الناس!
**
** أقول لرجالِ المرور:
* لا تُعاتبُوا الناسَ كثيراً، وعَاتبُوا أنفسكم عمَّا تشْهدُه شوارعُنا من حوادث مؤسفة؛ فالدولة لم تبْخل عليكم بالتقنية أو التقنين لممارسة مهامكم، وإذا كان هناك قصور من لدن الجمهور لا يدَّ لكم فيه، فليس هذا مبرراً لغيابِكم عن الشوارع!
**
* وللجمهور أقول وبصراحة لا يفسدُ بها ودُّ ولا مجاملةُ:
* لا تلومُوا المرورَ كثيراً، ولومُوا أنفسَكم وأهليكم عمّا تشْهدُه شوارعُنا من حوادث سيارات؛ فأنتم تمكِّنون أحياناً أفراداً غيرَ مسؤولين من ذويكم أو ممن لكم عليهم حق الولاية يفْتقرُون إلى الخبرة لقيادة سيارات، وحين يأتون من الحوادث ما تكرهون.. تتطوعون بالانتصار لهم، ظالمين أو مظلومين، وتَحُولُون بينهم وبين العدالة، أجهزةً وإجراءات، فإذا خَلوتُم إلى أنفسكم، كِلْتُم اللومَ كلَّه للمرور، ونسيتم أنفسَكم وأولادكم ومَنْ لكم عليهم ولاية، وكأنّ مرتكبي الحوادث قادمون من كوكب آخر!
**
* إنّ الوقايةَ من حوادث المرور، مثل علاجها، مسئوليةً حضاريةً وأخلاقية، ووظيفة يتقاسمُها رجلُ المرور.. ورجلُ الشارع وكلُّ مَن له ولاية على هذا الحراك، والقول بأن أحداً وحدَه مسؤول دون سواه افتئَات على الحق والحقيقة!
**
* أخيراً.. تسألونني: هل من حلِّ ل(حمّى) حوادث المرور..؟ فأقول لكم:
أولاً:
* لن تختفيَ حوادثُ المرور مهْما سَخَّرنا في سبيلها من حلول، تقنيةً وتقنيناً، ولكنَّ.. هيمنةَ الرَّدْع للحراك المسيء مرورياً تأتي في قمة الأولويات وتَعِدُ بالكثير إيجاباً!
ثانياً:
* الحلُّ النظاميّ موجود، لكنه يفتقد التنفيذ الشامل والرَّادع، بلا رحمة لمنْ لا يرحم الناس، وبلا استثناء لمِنْ يستثني نفسه من الناس!