بقلم: فائز بن موسى البدراني الحربي
الحج هو الركن الخامس من أركان الإسلام، ولأن الله سبحانه وتعالى وهو الرؤوف الرحيم فقد ربط أداء هذه الفريضة بالاستطاعة؛ تيسيراً على المسلمين، إلاّ أن حرص المسلم على التقرُّب إلى الله جعل أداء الحج هاجساً حاضراً في قلب كل من هداه الله إلى هذا الدين القويم.. ومن حكمة الله وهو العليم الخبير أن الاستطاعة شاملة عامة وليست مقصورة على الناحية المادية أو الجسمية، بل تتعداها إلى نواح كثيرة مثل مدى توافر الأمن، أو وسائل المواصلات، أو المؤن في الطريق والمشاعر المقدسة، وغير ذلك..
ومع أن قلة ذات اليد، وانعدام المؤن والأمراض الوبائية الفتاكة ومشكلة العطش كانت من أهم الموانع خلال القرون الماضية، إلاّ أن فقدان الأمن واضطراب الأحوال في طرق الحج وفي الأماكن المقدسة قد كان هو المانع الرئيس من أداء الحج! ولهذا فقد لجأ الناس الذين لم تمكِّنهم تلك الظروف من الحج في حياتهم إلى التوصية بأداء حجة الإسلام عنهم بعد مماتهم، ويراد بها: حج الفريضة.
ومن خلال مراجعتي لبعض وثائق الغاط لحظت أن هذا النوع من الوصايا يأخذ حيزاً كبيراً من الوصايا الشرعية، بل إنه يكون مقدماً على غيره من أعمال الخير التي ينص عليها الموصي. ومن ذلك على سبيل المثال لا الحصر ما جاء في وصية تعود لمنتصف القرن الثالث عشر الهجري تقريباً، ويستفاد منها أن الحج من الغاط إلى مكة للفرد الواحد يكلف 12 ريالاً، جاء فيها: (بسم الله الرحمن الرحيم. هذا ما أوصت به الحرة المكلفة الرشيدة فاطمة بنت إبراهيم بن سليمان بن فداغ. كانت تشهد أن لا إله إلاّ الله وأن محمداً عبده ورسوله، وأن الجنة حق والنار حق، وأن الساعة آتية لا ريب فيها، وأن الله يبعث مَنْ في القبور، أوصت بثلث ما وراءها قادماً في ذلك حجة فرضها اثنا عشر ريالا... إلخ).
وحجة أخرى مؤرخة في (8 - 1252هـ) جاء فيها: (.... هذا ما أوصى به الحر المكلف عبدالله بن عردان، كان يشهد أن لا إله إلاّ الله وأن محمداً عبده ورسوله، وأن الجنة حق والنار حق، وأن الساعة آتية لا ريب فيها، وأن الله يبعث من في القبور. أوصى بثلث ما وراءه قادم، في ذلك عشرة أريل، حجة لنفسه وكيلها عبدالله بن علي الحصين يحجها هو بنفسه أو يجاعل عليها من يحجها... إلخ).
وحجة أخرى مؤرخة في (2 - 1254هـ) جاء فيها: (.... هذا ما أوصت به الحرة المكلفة الرشيدة سلمى بنت عبدالله بن جاسر في صحة من عقلها وبدنها، أوصت بنصيبها في الطالعة من نخل أبيها، وهي ثلاث وعشرون نخلة قادم في ذلك حجة لأمها مريم، قدرها عشرة أريل، وأربع أضاحي على الدوام لها واحدة، ولأمها واحدة، ولأبيها واحدة، ولابنها عبدالله واحدة... إلخ).
وحجة أخرى مؤرخة في (9 - 1262هـ) جاء فيها: (بسم الله الرحمن الرحيم. شهدا عندي علي بن عبدالله بن منصور بن عيسى وعبدالوهاب بن حمد بن وُهَيْب بأن سارة بنت علي الحصين أوصت بحجتين وأضحيتين، حجة وأضحية لها بنفسها، وهي حجة فرضها، وحجة لأمها، وأضحية لأمها وأبيها.....إلخ).
وحجة أخرى مؤرخة في (1263هـ) جاء فيها: (بسم الله الرحمن الرحيم. شهد أحمد النصار بأن سلمى بنت عبدالله بن جاسر حجت لابنها هذه السنة 1263، لابنها عبدالله بن عيسى بن علي الحجة التي أوصى بها، كتب شهادته عن أمره عبدالعزيز بن عتيق الفداغ، وكذلك شهد عبدالله بن علي الدويخ بأن سلمى بنت عبدالله بن جاسر أنها أشهدته عند إحرامها أنها حاجة لابنها عبدالله، كتب شهادته عن أمره عبدالعزيز بن عتيق الفداغ).
وحجة أخرى مؤرخة في (8 - 1264هـ) جاء فيها: (.... أيضا أقرت سلمى المذكورة أنها أخذت حجة ولدها بعدما حجتها أحد عشر ريالا، وضحت له في مكة بريال، الجميع اثنا عشر ريالا، شهد على إقرار سلمى بذلك عبدالكريم المذكور، وشهد على إقرارها كاتبه عبدالعزيز بن عتيق).
وحجة أخرى مؤرخة في (1265هـ) جاء فيها: (بسم الله الرحمن الرحيم. هذا ما أوصى به الحر المكلف الرشيد جائز التصرف سليمان بن محمد أو أنيس، أوصى بثلث ما وراءه قادماً فيه ثلاث حجج، له واحدة، ولأمه واحدة، ولأبيه واحدة، والحجج على عشرة أريل....إلخ).
أقول: ويُستنتج من هذه النصوص المختارة أهمية فريضة الحج في المجتمع النجدي في ذلك الوقت، وحرص الناس على أدائها بأنفسهم أو بتوكيل غيرهم، كما يُستفاد من تلك النصوص الوثائقية أيضاً مقدار تكلفة أداء الحج من الغاط إلى مكة في منتصف القرن الثالث عشر الهجري، حيث تتراوح ما بين 10 و12 ريالاً فرانسياً.
وختاماً؛ فإن هذا جانب مهم من الجوانب التاريخية والاجتماعية التي تكشفها الوثائق المحلية التي هي المصدر الأول للتاريخ الاجتماعي.