رد أحد أساتذة كلية الشريعة المتقاعدين على رأي معالي وزير العدل الشيخ الدكتور محمد العيسى بشأن (الاختلاط) رداً مُبعثراً، حاول فيه أن يجد مخرجاً يهرب من خلاله، من (التأصيل) المحكم الذي أصَّل به الدكتور العيسى لوجهة نظره، بالقول إن الأدلة التي استشهد بها على جواز الاختلاط: (هي من متشابه السنة، وفي السنة مُحكم ومتشابهه كما في القرآن، وقد بين سبحانه موقف (الراسخين في العلم) وموقف الذين في قولهم زيغ من المتشابه فقال تعالى: { فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاء الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاء تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الألْبَابِ} ، كما جاء بالنص في رد المذكور.
بودي لو أن أستاذ الفقه المتقاعد قبل أن يضع نفسه في منزلة (الراسخين في العلم)، ويضع من يختلف معه في موضع (من في قلوبهم زيغ)، أن يقرأ - فتح الله على بصيرته - رأي الإمام النووي الذي أورده الشيخ عبدالعزيز المهيزع في جريدة الرياض، والذي يقول فيه الإمام النووي بالنص: (والاختلاط بين النساء والرجال إذا لم يكن خلوة فليس بحرام).. وهذا يعني في السياق واحداً من احتمالين:
إما أن مدرس الفقه المتقاعد أعلمُ من الإمام النووي الذي (قطع) بأن الأصل في التحريم هو الخلوة، وإذا لم تكن خلوة فليست بحرام، وبالتالي، وقياساً على رد المذكور، فإن الإمام النووي (هو الآخر) لم يفرق بين المحكم والمتشابه!.. أو أن صاحبنا ومن يحيطون به من شباب الصحوة (الحركيين)، يلوون أعناق الحقائق، ويقبلون ويرفضون بعيداً عما تمليه النصوص التي لا يتخطاها إلا مغالط.. ولكم أن تختاروا من الاحتمالين ما تشاؤون!
كل ما قاله الدكتور العيسى، ويقول به كل منصف، حتى وإن اختلف مع من رأى جواز الاختلاط إذا لم يفض إلى محرم، أن هذه القضية محل خلاف، وليست محل إجماع، وهذا ما يحاول أستاذ الفقه هذا أن يتملص منه.
وكان الدكتور العيسى قد اعتبر أن (تحريم الاختلاط) اجتهادٌ ضمن اجتهادات أخرى، فاعترض صاحبنا وقال: (ماذا يريد الوزير بالاجتهادات الأخرى؟ واضح أنه يريد اجتهادات المخالفين له في قضية النزاع بينهم وبينه ومن يذهب مذهبه، ومعلوم أن النزاع في تحريم الاختلاط (مُحدث) من حوادث العصر، والحق أنه (لا نزاع) في تحريم عمل المرأة مع الرجال على النحو الجاري في قطاع الصحة والإعلام والخطوط وكذا جمع الطلاب والطالبات في قاعات الدراسة كما هو الجاري في أكثر البلاد العربية، وعليه نظام جامعة عبدالله للعلوم والتقنية).. من الواضح جلياً أن هذا الشيخ لا يعيش خارج عصرنا فحسب، وإنما خارج كل عصور الإسلام، فالمرأة كانت منذ البعثة وحتى قبيل عصر (الغفوة) تبيع وتشتري في الأسواق، وتشارك الرجال الصلاة في المساجد، وتطبب المرضى، وتعمل مع الرجل في المزارع، وتسرح بالجمال والأغنام، وتقرئ الضيوف من الرجال في الصحاري طوال تاريخ الإسلام؛ حتى أن إماء عمر بن الخطاب رضي الله عنه: كن يخدمن ضيوفه (الرجال) كاشفات عن شعورهن؛ كما جاء في السنن الكبرى للبيهقي ص 227 الجزء الثاني، ولا أعتقد أن غيرة عمر رضي الله عنه محل شك أو تساؤل!
بقي أن أقول لهذا المدرس أن يبدي رأيه، ويتعصب له، ويذب عنه، حتى وإن اختلف مع الإمام النووي، فكلنا راد ومردود عليه إلا المعصوم - صلى الله عليه وسلم -، أمّا أن يتهم الناس بأن في (قلوبهم زيغ) لمجرد أنهم اختلفوا معه، فهذا ما لا يمكن أن نقبله، سيما أن موضوع الاختلاط أصبح اليوم قضية خلافية، لا يستطيع أحدٌ أن يفرض رأيه فيها، ويسفه بآراء الآخرين، مثلما كان الأمر في حقبة مضت وانتهت ولن تعود.
ذريعة (المحكم والمتشابه) التي لجأ إليها هذا الشيخ لرد بعض النصوص (الثابتة) ستكون - على ما يبدو - هي حجة المتشددين في المرحلة القادمة، وستذكرون كلامي. إلى اللقاء