|
|
|
إذا كانت الحياة بحراً يحكمه الهدوء تارة والزمجرة أخرى.. الأمان مرة والغرق مرة ثانية.. فإنّ الزوارق المتهادية على سطحه مرغماً تستجيب لمزاجه ولأمواجه محكومة بمغامرة قد يكتب لها النجاح وقد لا يكتب..
|
شاعرنا أبو سعد حاول أن يركب موج الحياة المتغير.. وأن يمتطي قاربه ضجراً عله يرسو به في شاطئ الأمان دون مشقة أو خطر.. هل أسلمه الموج الهادئ إلى بغيته.. أم أنه أخذه معه إلى القاع محطما أمنيته هذا ما يمكن استكشافه من خلال مغامرته..
|
.. ترنيمة حب للعش الصغير..
|
في عشيَ المجدول من ودي |
أحيا مع الأحباب في سعد |
تطوى ليالي العمر في بهجة |
في غفوة الجفنين والسهد |
وهو نائم يغط في سباته العميق.. وهو مستيقظ من حلم سباته يستبطن حلم صحوته لا شيء إلى حد الآن يثير لواعج نفسه ولا يكدرها شيء يستحق عليه التهنئة.. فالبدر من حوله يرفي هامة من سناه. والأنجم تتراقص وتومض كحبات اللؤلؤ. وقيثارة أحلامه تشنف مسامعه بأعذب الألحان.. وعصافير المنى تزقزق من حوله.. كيف لا وقد حان موعد لقياه بمحبوبته:-
|
يا وعدي المحبوب حان اللقا |
فامرح كما الأطيار يا وعدي |
ما أطيب الدنيا وأشهى اللقا |
والقلب في إشراقه الود |
على هذا المنوال من السرد العاطفي الرومانسي أخذنا الشاعر معه في زورق أشبه بزورق كليوباترة وهو يتهادى على صفحة النيل الخالد هل أن محبوبته التي غنى لها امرأة؟ أم أنها وطن.. وموئل ردمي من حوله التراتيل والصلوات؟
|
غنى بحب الله أركانه |
فمائل للذكر والحمد |
كم من تسابيح به رددت |
في خشعة للواحد الفرد |
أنعم بها من معشوقة اصطفاها لروحه تقربه إلى الله.. وتملأ قلبه بخشوع الإيمان والتقوى..
|
فالحب في دنيا الورى روضة |
أنفاسها من جنة الخلد.. |
كان هذا عشقه الأول والأكبر.. ويأتي عشقه الثاني لواحته الخضراء:
|
عشقته يا واحتي الخضراء من صغري |
ميس النخيل وهمس الطير للشجر |
عشقت هذي الرؤى طفلاً وهمت بها |
فصغتها نغما يزهو به وتري.. |
رفي على خاطري طيفا يعانقني |
ولحن حب على قيثارة السهر |
على هذا النسق بدت الصورة الجمالية تستبين ملامحها.. إنها واحته التي أوحت إليه بهذا الشوق.. وبهذا الالتصاق الوجداني:-
|
أبعد هذا المدى والحب مؤتلق |
أنساك يا واحتي يا جنة العمر |
إنه يهبها أغلى ما في عمره انتماء.. وولاء.. وفداء..
|
خذي فؤادي. خذي نبضي وأوردتي |
وليبق لي نظري في وجهك النضر |
النظر وحده هو المستثنى من الأخذ لا لشيء.. ولا لأنه الأغلى من الروح.. ولكن ليبصر به مفاتن واحته من أجل راحته..
|
من وحي أسبوع الشجرة صاغ لنا شاعرنا أبو سعد قصيدة طويلة تغنى فيها بالنخلة.. والنخلة في هجر بعنوان (وُجُودها). وجُودها..
|
يا بني الأحساء نفسي روعت |
بمرايا نصلها أدمى سوادي |
أبصرت عيني على مقربة |
شبحا يبدو رهيبا في امتداد |
أي شبح يعنيه ذلك الذي جفل له قلبه. وعقله؟!
|
نخلة في عزلة شامخة |
كشموخ الصيد أو صفن الجياد |
سمقت نحو السماء رافعة |
رأسها المصلوب في كف الكساد |
نظرت جاراتها مطروحة |
في دروب البؤس غالتها العوادي |
جردتها من برود حُسست |
فغدت تغفو بثوب من سواد.. |
حتى النخلة تعلن الحداد على مشهد الموت لأخواتها.. إنها تتألم.. وتبكي في داخلها.. بل وتموت حسرة.. لأنها حرة.. شاعرنا باسمها عقيرة شكواه لمن يهمهم الأمر:
|
أكرموا النخل فكم في النخل |
منن جلى توالت من جواد |
أكرموها، أكرموا عماتكم |
واغرسوهن بأصقاع البلاد |
آه لو أدركنا قيمة النخل.. ووفاء النخل.. وصبر النخل لغرسناه في كل شبر من أرضنا فثماره تمر جني، وكربه وقود للنار. وسعفه زنابيل. وحُصُر. وأوعية.. وعسبانه عصي لمن عصا..
|
(سطور على جبين الوطن) سطرها شاعرنا المجيد بيراعه فأحسن رسمها:
|
دفق من القلب. أم خفق من الشجن؟ |
أم رثة الوفي قد زفت إلى أذني؟ |
تلك القوافي التي تنداح من شفتي |
كالحلم مفصحة عما يخالجني |
تزور في يقظتي آنا وأونه |
على وسادة أحلامي تداعبني |
توصيف للصور وتوظيف للمفردات أثرى بها قصيدته باقتدار..
|
يا شعر مالي إذا ما قلت قافية |
أرى فؤادي منسابا إلى وطني |
ويخاطب وطنه وهو يدرك ما يعني متسائلاً:
|
أأنت يا جنة المشتاق يا حُلُمي |
فيض من الروح أم بعض من البدن؟ |
كلاهما يا شاعرنا فيض روح.. ونبض جسد بأكمله أن يتحرك فينا.. ويتحرك بنا ومن أجلنا.. الوطن مواطن على ضوء تعلقنا به تتحدد المواطن.. وترسم خطوط الحياة..
|
ومن الوطن إلى صرخة شهيد من أجل الوطن.. كلاهما عشق من أجل البقاء.. التراب حضن.. والتراث حصن منيع يجب أن لا يُخترق..
|
سأسير في ركب الحجارة صامدا |
وأميط عن عزمي كثيف حجابه |
وأخوض معركة الكرامة رافعا |
علم الجهاد لقمع من أزرى به |
نلقي الحجارة من كنانة صخرها |
لنكاية الطاغي ودك رقابه |
نلقي الحجارة كالأبابيل التي |
قطعت على المأفون درب رغابه |
مطرا ينير الحق لمع بروقه |
ويثير ويل الرعب وبل سحابه |
أبابيل أبرهة وقد حمت البيت الحرام من عدوانه كانت سماوية.. وحجارة أطفال وأبطال فلسطين لها نفس الموقع على نفوس الغزاة البرابرة.. تروعهم.. وتلقي في نفوسهم الرعب.. لأنها رمز كفاح شعب لا يهاب الموت.. ولا يستسلم لقوة المحتل..
|
ومن نبض الحرية التي تتحدى الصعاب يأخذنا شاعرنا أبو سعد إلى نبض الحب.. بما فيه من معاناة.. وقبلات..
|
يا شفاهي خافقي للشدو يهفو |
وعلى أوتاره لحن وعزف |
الجراحات التي ضجت به.. |
أصبحت فيه عن الوجد تشف |
والمواويل كبركان له.. |
بين أضلاعي إيقاع. ودف |
هكذا بداية كل حب.. إنه بمثابة رسائل القلب التائهة في أعماق الوجدان تبحث عن مخرج
|
كلما شمت جراحات الهوى |
جاش في المهجة إشفاق وعطف |
هوَّم الشعر على دقاتها |
فإلى الجرحى مواويلي تُزف |
ليسوا وحدهم الذين تُزف لهم المواويل.. ولست وحدك الذي يزفها.. لكل عاشق مواويله وأوتار عزفه.. وأجهزة بث.. كما تُعطي تأخذ فالكل في همِّ الغرام سواء.. الصمت يا صديقي لغة تقبل.. وأحيانا لغة لا مبالاة.. ومن صياغة النغم يتحدد الموقف..
|
فدعي الصمت وصوغي نغما |
يمسح الحزن فلا يأرق طرف.. |
آه من لهفة الظمأ إنها كاوية تشعل قلب المتيم بنارها وأوارها التي لا تحتمل.. وتفجر في دواخله ثورة بركانية تقذف حممها إلى البعيد دون أن ترحم.. ولكن للعقل أدبياته حين يستيقظ من صرعة الهوى ويمسك بمقود السفينة التائهة:-
|
إن تكن خابت ظنوني في الدنى |
فمن المولى يناغيني أمل |
أمل أحيا على إشراقه |
كلما لاح.. الأسى عني ارتحل |
وزها زهري على أغصانه |
نافياً عطر المنى أنى أطل |
إنها تهويمة.. دفعتها |
لهفة ظمأى على بحر الرمل |
لا خوف على لهفة كهذه من الظمأ.. الشفاه الصامتة لا تروق لشاعرنا.. فهو يريدها منفرجة بشدوها لا متفرجة على شجوها.. يريدها نغما يمزق أوتار اليأس بأوتار الأنس
|
يا شفاه الصمت هل خاب الرجاء؟ |
وذوى العمر على جمر الشقاء؟ |
واستحالت بسمة الدنيا أسى |
أذبلت علواءه زهر الصفاء؟ |
استحالت هنا تعني المستحيل لا التحويل وهذا يغير المعنى.. حسنا لو أبدلها بكلمة (وتبدَّت)
|
يا شفاه الصمت ما هذا الأسى؟ |
والأسى درب شقاء التعساء |
إذا ما ذاب خطب عارض |
أبصرت عيناك أشباح الفناء |
كلمة إذا ناقصة تخل بوزن البيت.. ولكي يستقيم يأتي الشطر كالتالي:
|
|
يمضي شاعرنا مع شفاه صمته يعاتبها.. ويغاضبها.. ويسائلها بلهجة المستنكر:
|
أبهذا اليأس تطوين الردى |
وبه تجنين أزهار البقاء |
كم من اليأس نفوس كابدت |
خنجر الفم.. وعانت برجاء |
ونفوس نفضت عنها الأسى |
غردت جذلى بروض السعداء |
فدعي اليأس وغني للدنى |
نغم الحب.. وموال الوفاء. |
هل طاوعته شفتاه..؟ هل انفرجت على همس يستجيب لدعوته..؟ ما أظن دعوة يعتمرها الحب بهذه القوة تخرج خالية الوفاض.. لعلها غنت له..
|
(الليل والأحلام) ثنائي أشبه بالتوأم.. أو بعبارة أصح أشبه بالأصل والظل.. يستغرقنا السباب فتتداعى في مخيلتنا صور كثيرة ومثيرة منها ما تعقله ومنها ما لا تعقل.. منها ما هو انعكاس لحركة الحياة المختزنة في الذاكرة.. ومنها ما هو أضغاث مزعجة ترقى إلى درجة الكوابيس..
|
شاعرنا جمع بين الليل والحلم.. ماذا يعني؟!
|
تهافت ليل الجدب يزجي رواقه |
ويرخي على كوخي غرابيب إظلام |
فغارت شموسي واحتوى الليل روضتي |
وفرت طيوف السعد والقبس إلهامي |
حلم شاعرنا (ليل) و(ليلى) ولكل ليل ليلاه:
|
وقلت لليلى فدك يا ليلي ارتحل |
ليجلي نور الشمس كابوس آلامي |
أجابت سدول الليل: ليلك أخرس |
ومدت يديها فاحتفى بدر الهامي |
طوى الليل أفراحي وأرّق مقلتي |
فبت لقي ما بين أطلال أحلامي |
ثاب إلى صحوة رشده.. وإلى شعاع قلبه الذي منحه يقين الحب وأبقى على قيثارته دون أن يتحطم وعلى أنغامها دون أن تلمم.. لقد مد شعاع الإيمان سناءه نحو كوخه المعتم مبددا أوهام سباته.. فاتحا بوابة الفرح بعد أن اندحر الليل بكل ما فيه.. هكذا أرادها أبو سعد.. وعلى مسؤوليته.
|
من نجاته من كوابيس الحلم المزعجة إلى ما هو ألذ من الخوف.. إنه الاحتراق الشعوري الذي يستوطنه ويستبطنه:
|
إنا في غابة الحياة كروض |
أذبلت غضبة الأعاصير زرعه |
أو كطير بها مهيض جناحا |
يتغنى لكي يكفكف دمعه |
كلمة عتمة الدياجي احتوتني |
أشعلت لي كواكب الحب شمعه |
فشموعي قياثر ونشيد |
وفؤادي يذوب وجداً ولوعه |
أنسج الشعر من لهيب احتراقي |
كشموع على الطريق مشعه |
فاسكبي الشعر يا حياتي رخيما |
واضفري اللحن للدياجي أشعه |
بهذا السرد المعبر.. والإيحاء الجميل.. ولهذا التصور المخملي جاءت قصيدتك حالمة كحلم كواكب حبك.. وأنفاس شمعتك.. إنه لهيب احتراق نطلب منه المزيد..
|
(الحرمان) أيضا وجه آخر من أوجه الصور المتباينة في معرض شاعرنا.. هل استساغه؟ وكيف جاء مذاقه؟
|
اسكبي علقم الأسى في دناني |
وتمادي ما شئت في حرماني |
وتناسي ربيعنا يوم كنا |
في رياض الخدود والشبعان |
وراح يعدد لها مرابض اللقيا.. النويثير، الحفل، ليت السماء صافية ترصعها النجوم ويزدهي فيها الفرقدان. ونجم الثريا أشبه بالتاج الذي يزين هامتها.. وحيث ازاهير الليل. والسواني التي تعزف لحن الماء. والطيور التي تحط وتحلق ثم تحط ملتقطة حبها سعيدة بحبها.. مشاهد استعادها من ذاكرته كي لا تنساها هي ولكن يبدو انها لم تصغ إلى تذكيره:
|
لهف نفس على مواويل أنس |
ولحون اصداؤها في جناني |
يتحسر على الرياض الحالمة. والأمسيات الحانية.. والربوع التي يحفها الألق.. والزهور التي تفوح بالعبق لقد تعرت جميعها أمام جفاف الحب وجفوة اللقاء:
|
فتلاشت لم يبق لي من سناها |
غير ذكرى تعيش في وجداني |
ومرايا لوجد عهد تولى |
شاعري السنا خضيل المجاني |
رغم قتامة ومرارة الانتظار كان الصراع على أشده بين قلبه وبين عقله.. قلبه الذي مازال الأمل الباهت يراوده.. وعقله الذي أوحى له ان الحب ليس استجداء وضعفاً. وركوعاً أمام قدميها.. وانما هو موقف رجولي يأبى الخنوع.. ويرفض الإذلال.. وانتصر القلب في خطابه على رسالة التحدي.. كان مهادناً وهادئاً رغم صدودها لأنه يحب
|
انكريه.. وانكري كل ما كان |
وسدي نوافذ العرفان |
مزقي. مزقي وشائج حبي |
واعصفي بالمتيم الصديان |
الصديان من الصدأ وهو تعبير جاف.. ألا يرى صديقي ان ظمآن.. أو الولهان.. انسب؟!
|
وترتفع عند شاعرنا درجة الحرارة في مقياس عاطفته: وتضحيته.. ان لم أقل وضعفه:
|
لن تنالي مني سوى زهر حب |
يتنامى في روضة من جنان |
انا كالند ان تقومي بحرقي |
انفخ الطيب من سحاب دخاني |
فتباهي بما تنالين مني |
ودعيني على شفير هواني |
احتسى الهم بكرة وعشيا |
وأناجيك في دجى هجراني.. |
هكذا اختار شاعرنا طائعاً موقعه من المعركة.. وله ما اختار.. وإن كنت أربأ أن يختار الهوان نهاية لتجربته.. ويكفينا جميعاً كمتلقين من الشاعر ندا شعره الذي قام بحرقه ومنحه لنا دخاناً زكيا وذكيا من سحابة خطابه الشعري المليء بصدق التجربة.. وهذا يكفي؟
|
الرياض ص. ب 231185 - الرمز 11321 |
فاكس 2053338 |
|