استغلال موسم الحج العظيم بالقضايا والشؤون السياسية - كما يريد ذلك الملالي الإيرانيون - يعني فتح الملفات الملتهبة والقضايا الشائكة للعالم الإسلامي فوق صعيد عرفات وفي أكناف بيت الله وفي المشعر الحرام، ما يعني تهيئة البيئة الخصبة لبذرة الفتنة على كل مستوى سواءً مذهبياً أو سياسياً أو عرقياً أو غير ذلك،وبالتالي
إشعال الموسم بحرائق الخلافات بين شعوب الدول العربية والإسلامية، التي يصل تعدادها قرابة 56 دولة، فضلاً عن نقل المشكلات الداخلية لكثير من هذه البلدان كصدمات السلطة ومعارضتها، إلى المشاعر المقدسة التي تتطلب أعلى درجات الطمأنينة والهدوء والتعبد. والنتيجة النهائية ضغائن ُتفرّخ خلافات وجدال يصنع التناحر، بما يهدد أمن الحجاج وسلامتهم وتمام أداء نسكهم، ويُفرّغ الركن الخامس من مقاصده الشرعية، كما يُشغل السلطات السعودية المسُتنفِرة بكل أجهزتها للقيام بشرف خدمة ضيوف الرحمن.
وبهذا ينقلب الواقع فبدل أن تُعالج المشكلات والخلافات في أروقة المؤتمرات السياسية واللقاءات الدبلوماسية تنشغل الأمة كلها بخلافات وتعقيدات سياسية لها أول وليس لها آخر. والعجيب أن الذين يدعون لتحويل موسم الحج إلى ملتقى (غوغائي) بالتظاهرات السياسية والشعارات الفارغة لم يتحملوا عشرات المتظاهرين في بلادهم، ويريدون أكثر من مليوني مسلم أن تحكمهم الشعارات فتدب بينهم الصدامات، دون أن يعي أولئك الغوغائيون أن الحج (موسم تعبدي) و(مؤتمر حضاري) يجمع كل الأمة الإسلامية بعيداً عن آفات السياسة وتعقيداتها، وهو مؤتمر المسلمين العام للتعارف عن قرب لزيادة أواصر المحبة وتعزيز التعاون، ونبذ الخلافات المذهبية، وتدارس الأحوال الاجتماعية، وتبادل المنافع في المصالح الدنيوية، خصوصاً ذات الأبعاد الاقتصادية والإعلامية والثقافية للأمة.
فالأمة الإسلامية تتمتع بمقومات حضارية كبيرة، سواءً على المستوى السكاني بتعدادها الذي تجاوز المليار مسلم، أو برقعتها الجغرافية التي تمتد على أكبر وأهم القارات الأرضية، أو بمواردها الطبيعية المتعددة التي تشكل مصادر طاقات العالم، أو بوقوع أهم المنافذ البحرية في نطاقها، وقبل كل ذلك (دين عظيم) هو الدين الكامل والمنهاج الحياتي الشامل. فما الذي يمنع هذه الأمة العريقة من النهوض الحضاري من جديد؟ هل هو خلل في المنهج على درب الحياة أم غبش في الرؤية للغاية المنشودة أم ضعف في الوسيلة التي تعين على إيصال رسالة الأمة وترجمة قيمها إلى حضارة ومدنية؟
في تقديري أن (المانع) متعدد، ومن وجوهه هذه (الأفكار الخطيرة) و(الدعوات التحريضية) التي تصرف المسلمين عن تطبيق أركان الإسلام والعمل بقيمه وتشريعاتها عن المقاصد الحقيقية للشرع الإسلامي، فضلاً عن تغييب القيم والممارسات الحضارية العظيمة التي تتجلى في (المنافع) التي ذكرها القرآن الكريم قال تعالى: (وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ، لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أيام مَّعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُم مِّن بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ)، فالحج يمثل في طبيعته أعظم تجمع إسلامي (شعبي ورسمي)، ومن هذه القيم والممارسات وأعظمها قيمة (الوحدة) الإسلامية، التي تفسدها غوغائية السياسة والشعارات المضللة، كما أن هذه الغوغائية والشعارات تلغي فضائل (الانضباط بالسلوك والالتزام بالنظام والصبر على أذى الآخرين)، التي يتعلمها المسلم من مدرسة الحج، فضلاً عن أن تحقيق الطمأنينة والسكينة في هذا الموسم الرباني تجعل الحجاج يتجهون إلى استعراض (تجاربهم الحضارية) و(برامجهم التنموية) و(ثقافاتهم الاجتماعية) مع إخوانهم الذين جاؤوا من بقاع ودول شتى، فما أجمل أن يتحدث الماليزي عن خبرة بلاده في (التقنية والسياحة)، ويستعرض التركي المدى الذي وصلته بلاده في (الصناعة)، ويشرح السعودي منجز المملكة في (الطب والصناعة البترولية)، كما يتحدث السوداني عن (الفرص الزراعية) في وطنه، ويستعرض المصري العراقة المصرية في (الثقافة والتعليم) وغيرهم ممن تتميز بلدانهم بمجالات عن غيرها، إضافة ً إلى الأقليات ومسلمي أوروبا وأمريكا، الذين يعتبرون مراجع مهمة بحكم أنهم ينتمون لدول متقدمة في كل المجالات، لأن العمل السليم وفق النيات المخلصة لهذه المجالات الحياتية يعتبر من مقاصد الشريعة بالنسبة لعمارة الأرض وفق منهج الله. هكذا يجب أن يُستثمر موسم الحج في الإطار الدنيوي إلى جانب الديني، وليس في الشعارات والتنديد بالموت لهذه الدولة أو تلك الدولة وتعكير صفو هذه الشعيرة الربانية العظيمة.
Kanaan999@hotmail.com