عندما ظهر تمرد (حسين بدر الدين الحوثي) وأتباعه لأول مرة في (محافظة صعدة.. قبيل سنوات.. كان اعتقاد الكثرة من اليمنيين بأنه ليس بأكثر من شغب عنيف يستهدف تذكير القيادة اليمنية ب (حق) المحافظة المنسي في التنمية باعتبارها إحدى محافظات الأطراف المهملة والمهمشة، التي لا يُسمع صوتها..
ولا يُستجاب إلى شكاواها في أغلب الأحايين، وهو الأمر الذي تبادر أيضاً إلى أذهان العرب -في شتى بقاعهم- من المتابعين والمهتمين بالشأن اليمني في ثورته وفي وحدته، فكان أن تحركت القيادة اليمنية من خلال عقلائها وحكمائها ووجهائها.. لإطفاء ذلك (التمرد) وتطييب خواطر أبناء المحافظة، وتقديمها على غيرها بما أمكن من جرع التنمية المدنية في تحسين المدارس والمستشفيات والطرق.. بل وب(تخصيص) عدد من الوظائف الإدارية والعسكرية لأبناء المحافظة، مع رصد بعض مليارات من الريالات اليمنية، لتحسين مستوى المحافظة ومديرياتها بصفة عامة. فإذا أخذنا في الاعتبار إمكانات اليمن المادية أمام رقعته المتسعة والمكتظة بسبعة وعشرين مليون يمني.. مضافاً إليهم العائدون إليه من أبنائه - من مدن الخليج - بعد غزو (صدام) للكويت.. فإن ما تم إنجازه في عاصمة المحافظة ومديرياتها يعتبر كثيراً وكبيراً مقارنة بعمر الثورة اليمنية والوحدة اليمنية القصيرين حتماً قياساً بما حدث ويحدث في حياة الأمم والشعوب.
لكن (شعلة) التمرد لم تنطفئ.. بل أخذت تتزايد في ظل حيرة القيادة، وهي تتحول إلى (حرائق) وإلى استيلاء على المدارس والمباني الحكومية، ونصب لنقاط تفتيش حوثية زئبقية تظهر وتختفي في مداخل المدن والقرى ومخارجها.. إلى جانب قتل وخطف الأبرياء من رجال المحافظة وشبابها ممن يعارضون التمرد وقادته داخل المحافظة، ويقدمون الوطن ووحدته، واستقراره ومصالحه.. على مصالح الحوثيين المتوارية - حتى تلك اللحظة من عمر التمرد - خلف مطالب الإصلاحات، ورفض الإهمال والتهميش والتطلع إلى مساواة محافظة صعدة بغيرها من محافظات (البريمو) أو الدرجة الأولى كمحافظات: صنعاء وعدن وتعز والحديدة وحضرموت وغيرها.
لكن السؤال أخذ يطرح نفسه أمام القيادات اليمنية: من أين يأتي (المدد) لهذا التمرد.. حتى يستمر ويتواصل على هذا النحو: الخافت حيناً.. والمتوهج حيناً آخر؟!
***
لقد ذهب ظن البعض ومن بينهم كتّاب وصحفيون يمنيون شرفاء.. بأن الأموال التي رُصدت لتحسين أحوال المحافظة تمهيداً لإطفاء (شعلة) التمرد.. ربما انتهت إلى أيدي المتمردين ليحولوا (الشعلة) إلى (حريق).. بل حرائق تمتد إلى عدد من مدن وقرى المحافظة، وهو أمر غير مستبعد.. في وطن لم يغادر محطات تخلفه وقبليته إلا قبل سبعة وأربعين عاماً هي عمر (ثورته) و(وحدته) معاً، إلا أن أنباء أخذت تتسرب في ظل تكتم ديبلوماسي يمني في شهر أكتوبر من العام الماضي وما قبله.. بأن (المتمردين) يتلقون دعماً عربياً من إحدى دول شمال إفريقيا للانتقام من المملكة العربية السعودية لاتهامها تلك الدولة بمحاولة اغتيال ولي العهد السعودي آنذاك، ودعماً إسلامياً موازياً.. للانتقام من الجمهورية اليمنية نفسها لوقوفها إلى جانب العراق في عدوانه عليها في ثمانينات القرن الماضي، وأن هذا (الدعم) المادي من الطرفين.. مكن المتمردين من الثبات والاستمرار.. بل وإفشال الوساطة القطرية الناجعة وبكل المقاييس في إطفاء التمرد وحرائقه وتمهيد الطريق لعودة الضالين من الحوثيين إلى جادة الصواب، وإلى الوطن ومصالحه، وإلى الاصطفاف مع بقية أبناء اليمن لمواجهة تحديات التنمية اليمنية ومصاعبها الكثيرة.
ورغم (ركاكة) أسباب هذا الدعم العربي والإسلامي.. تاريخياً، إلا أنه كشف عن جانب من سطور (أجندة) الحوثيين المجهولة والمتوارية خلف مطالب الإصلاحات ورفض التهميش.. هو جانب (العمالة) وتحول الحوثيين معه إلى (مرتزقة) يعملون لهذه الدولة أو تلك، لكن، كان لسطور هذه الأجندة بقية ستكشف عنها أحداث العام التالي.. وأعني به عام 2008م.
فبعد أن خرجت الوساطة القطرية مأسوف عليها في شهر يوليه من عام 2007م رغم محاولات بقية أعضاء اللجنة من مجلسي النواب والشورى والكيانات السياسية اليمنية المختلفة.. في استمرارها، بدعوة الجانب القطري للتريث وإعطاء مزيد من المهلة لأعضاء الجانب الحوثي لمراجعة أنفسهم.. شهد شهر سبتمبر من عام 2008م أكبر كشف عن الأجندة الحقيقية للحوثيين، عندما تنادى الحوثيون في العشرين منه.. إلى حفل جماهيري ب(الجامع الكبير) للاحتفال بذكرى (استشهاد) الإمام علي كرم الله وجه!! وليس بذكرى (يوم كربلاء) واستشهاد الإمام الحسين بن علي رضي الله عنه المعروف، والذي اعتاد الشيعة وربما الزيود على الاحتفال به كل عام.
لقد كان الاحتفال غريباً.. إذ لم يُعرف على مستوى العالم -فيما أعلم- ب (يوم) استشهاد الإمام علي كرم الله وجهه.. لكن الأغرب هو ما جرى في ذلك الاحتفال من تعريض واستخفاف بالخلفاء الراشدين الثلاثة رضوان الله عليهم الذين سبقوا الخليفة الرابع: الإمام علي.. كرم الله وجه، مع التطاول عليهم واتهامهم بما ليس فيهم وبما لم يُعرف عنهم، وبما لم يقل به حتى غير المؤمنين من أعداء الإسلام.. إلى جانب الإنكار ل(أحقيتهم) و(شرعيتهم) في خلافة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وصولاً إلى قول خطيب ذلك الاحتفال كما ذكرت صحيفة (الشموع) الأسبوعية الأهلية في عددها رقم 454 الصادر في 11- 10-2008م: (لولا أبو بكر لما كان عمر، ولولا عمر لما كان عثمان، ولولا عثمان لما كان معاوية).. وانتهاءً إلى بيت القصيد فيما يلوح عندما قال: (أمير المؤمنين، خليفة رسول رب العالمين، قرين القرآن هو ذلك الرجل، الإمام علي.. عليه السلام يوم أقصي).
ورغم أن هذا الاستدعاء للتاريخ الإسلامي وعلى هذا النحو يؤخر ولا يقدم الأمة.. إلا أنه لا يستدعي أو يستقطب أنصاراً البتة لهؤلاء النفعيين والعملاء من جماعة (الحوثي)، وهو فيما أعتقد أنه كان من بين أهداف ذلك الخطيب المارق والظالم لنفسه ودينه! فما الفائدة من إسقاط تاريخ مضى عليه ألف وأربعمائة عام واستبداله بتاريخ آخر يدعيه زوراً خطيب موتور في جامع غص بالموتورين والنفعيين والعملاء من أمثاله..؟!
لقد صبت (الفائدة) وعلى عكس ما أراد.. في غير الماعون الذي أراده ذلك الخطيب، إذ كشف ما قاله بالتمام والكمال عن البقية الباقية مما كان متوارياً من (أجندة) هؤلاء المتمردين (الحوثيين) أو (منهجيتهم) -كما ذكرت صحيفة (الشموع) اليمنية الأسبوعية- (التي تشير إلى توافقها مع المذهب الجعفري الاثنى عشري.. البعيد عن المذهب الزيدي الذي يتخذونه لافتة لنشاطهم وفكرهم)..!!
إن هذا التقارب المذهبي.. وأمثاله من المذاهب الإسلامية المختلفة، هو من بين أهداف العقلاء والراشدين من أبناء الأمة الإسلامية، فلا غبار عليه من حيث المبدأ.. لأنه يريح الأمة من (صداع) اختلافاتها المذهبية الدائم الذي فرقها وقسمها وحزَّبها، إذ إنه سيكون في النهاية - وكما يفترض- في خدمة الأمة والذود عنها والدفاع عن حقوقها وحريتها وكرامتها، أما إذا تحول هذا التقارب إلى تأشيرة مرور للعدوان على مخالفي المذهب، أو (تكئة) لسداد فواتير عمالة ضد الوطن أو أحد جيرانه.. فلا أظن أن أحداً سيدعو لهذا (التقارب) أو يعمل له!!
***
على أية حال، كان في إمكان القوات المسلحة اليمنية صاحبة الخبرة القتالية في إنهاء تمرد الانفصال بإتقان وبراعة.. أن تنهي هذا (التمرد) قبل اجتماع مسجد الجامع الكبير أو بعده.. وقبل أن يبلغ (التمرد) أسوأ مراحله وطنياً وإقليمياً، ولكنها وإن حاولت ذلك عن طريق قوات الشرطة مع مساندة محدودة من الجيش في مراتها الخمس السابقة.. إلا أن محاولاتها كانت وطنية مسؤولة حذرة، باعتبار أن القنابل عند انطلاقها.. لا تفرق بين (حوثي) متمرد ومواطن من أبناء صعدة، وأن القذائف لا تميز بين ممتلكات الحوثيين.. ومراكز ومباني صعدة الوطنية التي بنيت بالسهر والعرق.. وأن الدبابات لا تفرق أو تميز بين الشوارع والميادين التي يستخدمها الحوثيون وتلك التي يستخدمها جموع المواطنين اليمنيين الذين ابتلوا بهذه (الزمرة) التي لا (وطنية) تردعها.. ولا ضمير إسلامي يكبحها، فكانت محاولاتها العسكرية الرقيقة وكأنها تخضع لمنطق ذلك الشاعر اليمني الذي قال ذات يوم:
(إذا احتربت يوماًً فسالت دماؤها
تذكرت القربى.. فسال دمعها)
.. ليمضي عام بحاله من سبتمبر 2008م إلى سبتمبر 2009.. حيث جرت كثير من المياه والأحداث تحت جسور النهر، لعل من أهمها وأبرزها إعادة انتخاب الرئيس الإيراني أحمدي نجاد لدورة رئاسية ثانية.. والاستقبال اليوروأمريكي السيئ الذي استقبلت به، والذي جارتها فيه صحف عربية، وبعض من صحفنا على غير حق.. وهو ما أوغر صدور الإيرانيين فيما يبدو، الذين يعانون أصلاً -وهم على حق- من ضغوط يوروأمريكية منحازة ضد ملفهم (النووي)، وخطره المستقبلي على منطقة الشرق الأوسط.. دون أن يشيروا ل (إسرائيل) صاحبة الخطر الآني والفعلي، وصاحبة أكبر مخزون نووي عسكري -وليس سلمي- ولو بكلمة واحدة، فلم يعطوا لأنفسهم فرصة تأمل الفوارق الكبيرة والمذهلة بين زمانيين وإعلاميين: إعلام القرن العشرين المنضبط والمحكوم والمعبر عن الحكومات غالباً.. وبين إعلام القرن الواحد والعشرين المتعدد الأصوات والأفكار الذي يعتمد مبدأ (المعلوماتية) في نقل ما يدور، والذي لا يعبر دائماً -أو بالضرورة- عن رأي حكوماته، ليندفع الحوثيون تطوعاً، أو سداداً لفواتير إيرانية غير معروفة الحجم إلا من خلال استمرار هذا التمرد.. في محاولة لنقل شغبهم وتمردهم الخائب إلى حدود المملكة الجنوبية عبر متسللين وإرهابيين ومخربين حوثيين، وهو ما أزعج القيادة اليمنية والرئيس علي عبدالله صالح.. الحريص على سلامة ونقاء ودفء العلاقات اليمنية السعودية، ودفعها إلى آفاق بلا حدود من التعاون المشترك، ربما بأكثر ما أزعج القيادة السعودية نفسها.. التي تولى جيشها أمر تنظيف الحدود بحزم وحسم وكما شهد أبناء الوطن والعالم كله، طوال الأيام الماضية، ليقول الأمير خالد بن سلطان مساعد وزير الدفاع والطيران بعد تفقده لمناطق التسلل.. قولته الصادقة إلى أبعد الحدود: (هذه الزمرة خانت وطنها.. قبل أن تخون جيرانها)..!!
لقد كان اندفاع الحوثيين نحو الحدود السعودية يمثل بحق غلطة عمرهم.. التي ستكلفهم وجودهم الزائف والزائل بتكامل التنسيق بين الطرفين اليمني والسعودي، على اجتثاث هذا (الخراج). هذا (التمرد) الذي لا يحمل في طياته أي دعوة حضارية مستقبلية تستحق الوقوف عندها، وهو ما سيكون بإذن الله رغم صعوبة منطقة صعدة الجبلية ووعورتها.
على أن اندفاع الخارجية الإيرانية بالتصاريح التي صدرت عنها الأسبوع الماضي.. يبقى محل تساؤل..؟ وهو في كل الأحوال يحتاج إلى وقفة من القيادة الإيرانية العليا تنظر إلى (المستقبل) واحتمالاته.. بأكثر من نظرتها إلى الحاضر ومكاسبه إن كانت له مكاسب!!
لقد أحسنت صنعاً دولة الشمال الإفريقي العربية.. عندما غادرت حلبة هذا (التمرد) مبكراً، ولا أظن أن القيادة الإيرانية العليا.. بأقل وعياً وإدراكاً للمخاطر منها.