* ورد في الوقائع اليومية، لبعض الصحف الصادرة يوم السبت قبل الماضي، أن بعضاً من خطباء الجمعة في أجزاء من مناطق جازان وعسير ونجران، جعلوا من التحرش والتسلل الذي طال قرانا الجنوبية، محوراً لخطبهم المنبرية، فاستحقوا بذلك التحية والإشادة من كافة المواطنين،
الذين ظلوا وما زالوا مشدودين إلى متابعة عمليات التطهير التي تخوضها قواتنا الباسلة، ورجال الأمن الأماجد، ضد عناصر الغدر والخيانة والعمالة في هذا الجزء الغالي من وطننا الحبيب.
* لا بد أن خطباء جمعة آخرين في عدد من مناطق البلاد، فعلوا الشيء ذاته، فتحية لهؤلاء، وتحية لأولئك، على هذه المقاربة المنبرية مع قضايانا الوطنية الحاسمة، فإذا نحن لم نستغل منابرنا الجُمعية، الذي يناهز عددها الخمسة عشر ألف منبر، في هذا الظرف العصيب، فمتى نفهم دورها الفعال، ومتى نكف عن (تغريب) مشاعرنا الوطنية، حتى في أحلك الظروف وأقساها..؟
* لو أن أحدكم سُئل وهو في طريقه إلى الجامع يوم الجمعة الماضية أو التي سبقتها: ماذا تتوقع - أو على الأقل - ماذا تود سماعه من منبر الجمعة في هذا اليوم..؟ لأجاب على البديهة: خطبة عن العدوان الآثم على حدودنا، وواجبنا الديني والوطني تجاه حماية حدودنا، وحفظ أمننا، وواجبنا كذلك حيال نجدة إخواننا المواطنين في القرى التي تحادّ اليمن، وتتعرض لعبث المتمردين على دولتهم، الخارجين على عروبتهم وتاريخهم وجغرافيتهم، البائعين ضمائرهم للغير. أو الكلام على قضايا صحية وتعليمية واجتماعية ودينية وأخلاقية، لا تخرج عن واقعنا الذي نعيشه.. إلى ما هنالك من عناوين عريضة، تصلح للكلام من منبر ديني موجه لكافة شرائح المجتمع، من متعلمين وعاميين وغيرهم.
* الواقع أن بعضاً من خطباء الجمعة في كثير من المناطق، ما زال يغرد بنا خارج سربنا، فيذهب بنا أصقاع بعيدة جداً، ويمارس (التغريب) ذاته، الذي عرفناه منذ عقود ثلاثة - التغريب من الغُربة وليس الغرب، كما يدندن بهذا بعض قوم - فخطبة الجمعة عند هذا الصنف من الخطباء، صوت حاضر بيننا، لفئات وأحزاب وحركات إسلامية، تنشط في شرق الأرض، وفي غربها، وفي شمالها وفي جنوبها، الكثير منها يمارس الإرهاب، ويضر بالإسلام والمسلمين، وصور شارحة لأحوال أناس آخرين في قارات العالم، تعرض لمآسيهم وبؤسهم وفقرهم، فتستدر العطف نحوهم، والتطوع أو التبرع لهم، وخطب كثيرة، تشعر أنها صحائف مكررة من مواقع ومنتديات إلكترونية سياسية لا أكثر، لكثرة ما تعرض من أوجه الخلاف السياسي والمذهبي بين فئات وجماعات، ثم تسود في النهاية، وجهة نظر الخطيب نفسه، الذي يغلب رأيه، وينصر حزبه، ويختم بالدعاء على مخالفيه أو من يخالفهم هو، بتجميد الدماء في عروقهم، وسحقهم ومحقهم، وقطع نسلهم، وغرق سفنهم، وإسقاط طائراتهم، وتمكينه هو وحزبه منهم، بأسر رجالهم، وسبي نسائهم..! ولم ينس الدعاء المستدام على اليهود والنصارى، وأميركا وإسرائيل، وهو دعاء من أجل تضليل الناس، واستغلال مشاعرهم لا أكثر.
* استمعت إلى خطبة من هذا القبيل في مدينتي، في الجمعة الموافقة للثامن عشر من هذا الشهر.. أسفت لما سمعت، ووجدت في الجامع من المتعلمين، من استنكر الذي سمع. كنا نظن أن هناك ما هو أهم من هذا الكلام المليء بالسب والشتم والتحريض، البعيد عن واقع المجتمع، وما جعل المنبر إلا لتوجيه الناس وتوعيتهم، وربطهم بحياتهم وبوطنهم الرءوم، وبث روح المحبة بينهم.
* لم يتطرق الخطيب لما كنا نظن أنه يشغل باله كما يشغل بالنا من همّ، وهو قضية العدوان على قرانا وأراضينا على سبيل المثال. عرضت الخطبة في جزئها الثاني، صورة شبه كربونية، لما يعرض له بعض المواقع والمنتديات الإلكترونية المتشددة ضد الصحافة المحلية، وكُتّابها ومحرريها، حتى اندفع الخطيب فوصف الصحف بالكذّابة، والصحافيين والكتاب بالمنافقين والعلمانيين والليبراليين والتغريبيين، ثم لم يكتف بذلك، فحشرهم مع اليهود والنصارى، ودعا عليهم بما يقطع ألسنتهم، ويشل أيديهم، ويمحقهم، ويسحقهم، ويظهر فيهم عجائب قدرته. ثم أعقب بالدعاء للمسلمين من (غيرهم).. وكأنه يجعلهم في فصيل غير فصيل المسلمين والعياذ بالله.
* الشيء الأمرّ من سابقه، أن الخطيب المفوه، خصص الدعاء في الخطبة الثانية، ل (كافة المجاهدين في كل مكان).. ثم قال: (اللهم انصر المجاهدين في أفغانستان، وفي الباكستان، وفي العراق، وفي الصومال).. ولم يبق إلا أن يقول: (وفي اليمن، وفي جزيرة العرب)..!!
* سأل سائل ونحن نخرج بعد الصلاة: من هم المجاهدون الذين عناهم هذا الخطيب العجيب، والذين يجاهدون اليوم في (كل مكان)، وفي أفغانستان، والباكستان، والعراق، والصومان..؟! هل هم أناس غير الذين نعرفهم من الخوارج، من أذناب القاعدة وطالبان..؟!
* وسأل سائل آخر: ما موقع رجال الأمن والقوات المسلحة من السعوديين، في خُطب الجمعة، وهم الذين يذبُّون العدوان عن حدودنا الجنوبية في هذا اليوم..؟ أليسوا مجاهدين يستحقون الدعاء لهم بالنصرة..؟!!
* وسألت نفسي في نهاية المطاف: لماذا تجود (مايكروفوناتنا) البليغة، من منابرنا الكثيرة، بالدعاء ل (مجاهدين)، هم ليسوا أكثر من خوارج قتلة، ينتسبون إلى طالبان والقاعدة، يكفرون ويفجرون، ويقتلون ويفسدون، ثم تبخل (مايكروفوناتنا)، على المجاهدين الحقيقيين من سلاح الحدود، ومن رجال الأمن والقوات المسلحة، الذين يذودون عن كيانهم الحر الأبي، ويدافعون عن وطنهم ومواطنيهم..؟!!
* ما هذا الذي يجري..؟!
* حقيقة.. لا أدري.
assahm@maktoob.com