Al Jazirah NewsPaper Saturday  14/11/2009 G Issue 13561
السبت 26 ذو القعدة 1430   العدد  13561
تجزئة السوق المالية.. هل أصبحت ضرورة؟!

 

عبد الحميد العمري

بالنظر في اتجاهات وتطورات السوق المالية السعودية طوال فترة الأربع سنواتٍ الماضية (2006-2009)، بما ضمّته من قراراتٍ هيكلية وإجراءات تنظيمية وإدراجاتٍ متتالية؛ هدفتْ في مجملها إلى زيادة تنظيم عمل السوق المالية الأكبر في منطقة الشرق الأوسط، للوصول بها إلى مستوى يؤهلها إلى خدمة الأهداف الكلية للاقتصاد الوطني، فلا شكَّ أن جزءاً كبيراً من تلك القرارات والإجراءات ساهم في تحقيق رزمة جيدة من تلك الأهداف الإستراتيجية المثالية. فعلى مستوى القرارات والإجراءات شهدتْ السوق ضخ عدد كبير منها امتدت من إكمال أغلب اللوائح التنفيذية لنظام السوق المالية (10 لوائح وقواعد)، بما ضمته من تعديلات تطلبتها حاجة السوق آنذاك، مروراً بعدد من الإجراءات التنظيمية الجريئة في بعضها (كتوحيد وقت التداول مع مطلع سبتمبر 2006م)، تلاها إعادة هيكلة قطاعات السوق وزيادتها إلى 15 قطاع، ثم تغيير معادلة احتساب المؤشر العام للسوق بالاعتماد فقط على قياس تعاملات الأسهم المتاحة للتداول، ألحقتها الهيئة بالكشف عن تغيرات ملكيات كبار المساهمين في الشركات المساهمة المدرجة، ومؤخراً دشّنت هيئة السوق المالية سوق أدوات الدين بما يوسع من خيارات التمويل أمام الشركات المساهمة من جهة، ومن جهةٍ أخرى توسيع الخيارات الاستثمارية أمام الممولين والمستثمرين، وقيامها أيضاً بتسهيل إجراءات مشاركة المساهمين في تحديد مصير وتوجهات شركاتهم المساهمة عبر تفعيل خدمة التصويت الالكتروني؛ كل هذه الإنجازات تُسجل دون أدنى شك لصالح عمل هيئة السوق المالية سواءً في دورته السابقة أو حتى دورته الحالية.

أما على مستوى الإدراجات فقد ضخّت سياسة هيئة السوق المالية بعد انهيار فبراير الشهير في عام 2006م حتى تاريخ إعداد هذا التقرير نحو 59 اكتتابا، مقابل 7 اكتتابات فقط منذ تأسيسها وحتى فبراير 2006م، بلغت رؤوس أموالها نحو 67.7 مليار ريال، تم تغطيتها بما يقارب 241 مليار ريال، عن طريق ما يناهز 134 مليون مكتتب! وصل عدد الأسهم المصدرة لتلك الاكتتابات إلى 16.9 مليار سهم، كان نصيب المكتتبين منها نحو أكثر من 4.7 مليار سهم، ولتتأكد لك أهمية وضخامة هذه الاكتتابات من بعد الانهيار أُذكر بحجم الأسهم المصدرة في السوق قبيل ذلك التاريخ، أنها لم تكن تتجاوز 15.62 مليار سهم فقط! واليوم نحن نقف على رصيد مصدر من الأسهم يفوق 41.13 مليار سهم، المتاح منها للتداول يناهز 15.8 مليار سهم؛ أي أنه أكبر حتى من إجمالي المصدر قبيل الانهيار، وبالتأكيد فإنه يفوق خمسة أضعاف ما كان متاحاً للتداول إبّان انهيار فبراير 2006م. ولقياس درجات النجاح في سياق تلك الإدراجات فلا شك أنه على الرغم من تحققه في جزءٍ منها، إلا أنه قد أحدث أضراراً في تعاملات السوق في المنظور القصير والمتوسط الأجل، دون أن تمسّ هذه الأضرار مصالح السوق في الأجل الطويل، ويعني هذا أن درجة النجاح المتحقق كانت أقل من درجات النجاح التي تحققت بالمقارنة مع سجل إنجازات الإصلاحات الهيكلية والإجرائية التي قامت بها هيئة السوق المالية طوال السنوات القليلة الماضية. ومن هنا أحاول التوسع فيما يلي من التقرير حول كيفية الاستفادة بصورةٍ أكبر من تلك الإدراجات الحديثة على السوق، بصورةٍ تقترب فيها أكثر مع أهداف هيئة السوق المالية التي اتجهت نحو زيادة عمق السوق، وتوسيع خياراته الاستثمارية، بما يخلق فرصاً استثمارية مجدية وملائمة، وفي الوقت ذاته تقلص من مستويات المخاطر الكامنة في السوق المالية، وكل ذلك في مجمله ينصبُّ نحو رفع قدرة السوق المالية لأجل خدمة أغراض الاقتصاد الوطني بأفضل ما يمكن من وسائل وقدراتٍ متاحة.

تجزئة السوق المالية السعودية.. لماذا وكيف؟!

لعل من أبرز عيوب الإدراجات الحديثة من بعد انهيار فبراير أنها ضمّت عدداً كبيراً من الشركات المساهمة الصغير الحجم، والشركات تحت التأسيس، ما ساهم في مراحل زمنية لاحقة في رفع مستويات المخاطر وعمليات التدوير المضللة، وأدّى في مراحله الأخيرة إلى تشويه المحددات الاستثمارية للسوق المالية كما سيتبين في الجزء القادم من هذا التقرير، وهذا يناقض بالطبع الأهداف الأولية من الموافقة على هذه الإدراجات، ولكن هل يعني هذا الاستسلام أمام هذه التحديات والمخاطر الجديدة وهي التي كان يؤمل منها أن تحقق عكس ما أدّت إليه من مخاطر مرتفعة، ونشرٍ لسلوكياتٍ مخالفة وخطيرة ممثلة في عمليات التدوير المضللة بصورةٍ فاقت حتى مثيلاتها قبيل الانهيار، أو الرضوخ لطلبات (أوامر) بعضها بزيادة رؤوس أموالها بعد اهتلاك نصف رأس مالها الذي تم طرحه على المكتتبين في أقل من عامين ماليين؟!

لقد كشفت دراسة تطورات وتعاملات السوق المالية خلال الفترة الماضية عن عددٍ من الإختلالات البالغة الخطورة، ما يتطلب بالضرورة من هيئة السوق المالية سرعة التحرّك نحو اتخاذ الإجراءات الكفيلة بمعالجتها والحد من مخاطرها وتشوهاتها الضارة. فوفقاً لما أسلفت أعلاه من كون أغلب تلك الإدراجات صغيرة الحجم، فأنها إضافةً إلى بعض الشركات الكبيرة الأخرى لا تزال شركات تحت التأسيس، وبعض تلك الشركات العملاقة تحت التأسيس تعمل في مجالات شديدة المنافسة ما يعني أن التحديات والمخاطر أمامها أمرٌ لا يمكن إغفاله، أو أنها مرتبطة بصورةٍ أكبر بالتطورات والمخاطر في الخارج (هل هناك أسوأ مما يحدث للاقتصاد العالمي في الوقت الراهن منذ الكساد الكبير؟!)، أو أنها تعمل في مجالاتٍ تتطلب تمويلات ضخمة جداً أكبر من رأس المال بعدة أضعاف، وتتطلب أيضاً ما لا يقل عن خمس إلى عشر سنوات حتى تصل إلى نقطة التعادل! كل هذه المخاطر رأيناها تنعكس على حقوق المساهمين في تلك الشركات، حتى أن بعضها تآكل ولم يقف الأمر على سوئه عند حقوق المساهمين بل لقد امتد إلى رأس المال بنسبٍ وصلت إلى ما يقارب 70 في المائة! كما رأينا تلك المخاطر تمتد إلى زياداتٍ غير مسبوقة في عمليات التدوير والمضاربة، امتدت أضرارها إلى تشويه تحركات السيولة داخل السوق المالية، ما أضرَّ في نهاية المطاف باتجاهات الاستثمار والتسبب في حدوث ما يشبه الإضراب حتى من قبل المتعاملين ذوي الوعي الاستثماري تجاه الشركات القيادية التي تحقق وتوزع الأرباح، ما ساهم في نشر ثقافة الفوضى المضاربية بصورةٍ أصبحت تدعو إلى القلق الشديد.

أنظر في الجداول المرفقة حول أعلى معدلات التدوير (كمية، قيمة) وكيف أن الشركات الحديثة الإدراج كانت صاحبة المقام الرفيع في هذا الصدد؛ فعلى مستوى الأعلى على مستوى التدوير بالكمية خلال عام 2008م، جاءت أعلى 10 شركات تم عليها التدوير جميعها من الشركات الأحدث إدراج، وخلال العشرة الأشهر المنقضية من العام الجاري حافظت 7 شركات من الشركات الأحدث على مواقعها المتميزة في سلم المضاربات! ولا تبتعد الصورة ذاتها إطلاقاً بالنسبة لعمليات التدوير من ناحية القيمة فالحصة الأكبر ظلت كما هي للشركات الأحدث إدراجاً! أما إذا نظرت إلى الشركات الأكثر خسارة من رأس المال فستجد أن 13 شركة من الشركات الأحدث إدراجاً ضمن أكثر 20 شركة خسارةً من رأس المال! بل أن الست شركاتٍ الأكثر خسارة كانت جميعها شركات حديثة الإدراج! وبأخذ الصورة بوجه أكثر عمومية ستجد أن من بين أكثر الشركات خسارة من رأس المال البالغ عددها في السوق نحو 32 شركة مساهمة، هناك 21 شركة حديثة الإدراج قد تهالكت رؤوس أموالها بسبب أوضاعها المتعسرة، ما زاد من وطأتها على المتعاملين أكثر من أن تساهم في خفض المخاطر والخسائر عليهم.

أمام هذا الواقع المشبع بالمخاطر في سوق الأسهم السعودية، لا أعتقد أنه من السلامة بأي حالٍ من الأحوال إهمال الأمر وتركه حتى تقع الفأس في الرأس، وإن كنت أخشى أن جزءاً منها قد أدمى وكبّد الكثير من الخسائر! معتقداً أن خطوة ممثلة في فصل تلك الشركات العالية المخاطر في سوق أخرى (موازية)، وتقييد التعاملات فيها بعددٍ من الضوابط تمنع الشريحة الأكبر من المتعاملين (خاصة الصغار منهم) من التداول عليها، لعل من أهم تلك الضوابط:

- تأخير تسوية صفقات السوق الموازية حتى ما بعد إغلاق جلسة عمل اليوم للسوق.

- تحديد حد أدنى لقيمة أي صفقة (شراء) في تلك السوق، كأن يبدأ من 200 ألف ريال فأكثر.

أما في جانب المحددات التي بناءً عليها يتم فرز الشركات المساهمة المدرجة الآن في السوق المالية، فلأن أوضاع الشركات المدرجة في السوق تمر بواحدةٍ من أقسى الأزمات من ناحية نمو الدخل، فيفضل في بداية هذا التوجه لمدة خمس سنوات قادمة الأخذ بأقل تلك المحددات التي تكفل حماية رأس المال بالدرجة الأولى، ما يعني إقصاء أي شركة مساهمة تقل نسبة حقوق المساهمين فيها إلى رأس المال المدفوع (المتوسط المرجح لآخر عامين ماليين) عن 100 في المائة إلى السوق الموازية، وما فوق تلك النسبة تظل مدرجة في السوق الأولى (الرئيسة). وبالدرجة الثانية؛ يتم تخفيض عدد الشركات المساهمة قليلة رأس المال كخياراتٍ استثمارية أمام مجتمع المتعاملين في السوق الأولى (الرئيسة)، كأن يتم إقصاء الشركات المساهمة ذات رأس المال 200 مليون ريال فأقل إلى السوق الموازية.

بالطبع لم اعتمد على بعض المحددات الأكثر صرامة في هذا الاتجاه، وكما هو معمول به في بعض الأسواق المالية الناشئة والمتقدمة، التي تصل حدودها إلى اشتراط ألا يقل نمو صافي دخلها السنوي لآخر عامين ماليين عن 7.5 في المائة، أو 5.0 في المائة. أو ألا تقل نسبة حقوق المساهمين إلى رأس المال المدفوع (المتوسط المرجح لآخر عامين ماليين) عن 120 في المائة، أو 115 في المائة. إضافةً إلى العديد من المحددات الأخرى البالغة الصعوبة على سوقنا المالية وفق أوضاعها الراهنة. ويكفي القول أن مجرد تطبيق الحد الأدنى من تلك المحددات مؤداه أن لدينا نحو 48 شركة مساهمة مدرجة الآن مرشحة للإدراج في السوق الموازية! وصل صافي خسائرها السنوية حتى نهاية الربع الثالث من العام الجاري إلى -36.4 مليار ريال، يصل العائد على سهمها بالريال إلى -3.2 ريال للسهم، فيما جاءت نتيجة مكرر أرباحها سالباً، ولم تتجاوز القيمة الدفترية لسهمها أكثر من 5.9 ريال للسهم، ووصول مضاعف السعر السوقي للقيمة الدفترية إلى نحو 2.1 مرة.

أما بالنسبة لبقية الشركات المساهمة المرشحة للإدراج في السوق الأولى (الرئيسة)، فأنه يصل إلى نحو 85 شركة مساهمة، وصل صافي أرباحها السنوية حتى نهاية الربع الثالث من العام الجاري إلى نحو 56 مليار ريال، ناهزت توزيعاتها النقدية حتى تاريخه نحو 33 مليار ريال!، وفي جانب مؤشرات هذه السوق الجيدة استثمارياً (الرئيسة) فلم يتجاوز مكرر الأرباح فيها 19 مكرر، ووصل العائد على السهم فيها إلى نحو 1.9 ريال للسهم، أما القيمة الدفترية فقد وصلت للسهم المدرج فيها إلى 19.3 ريال للسهم، وبالتالي لم يتجاوز مضاعف السعر السوقي للقيمة الدفترية أكثر من 2 مرة. وكما سيُلاحظ القارئ الكريم الفوارق الكبيرة بين السوقين الرئيسة والموازية من جهة، فسيلاحظ أيضاً الفوارق الكبيرة بين التوجه الجديد المراد تحققه للسوق المالية والواقع الذي تقف عليه في الوقت الراهن على مستوى كافة المؤشرات الأساسية والسلوكية.

متطلبات لاحقة لتجزئة السوق..

كما يبدو لنا مما تقدّم أن قاعدة الاستثمار (الأسهم المتاحة للتداول) ستصبح أقل مما كانت عليه قبل التجزئة، حيث من المتوقع أن تنخفض الأسهم المتاحة للتداول إذا تم تطبيق هذا الإجراء الجيد من 15.8 مليار سهم إلى نحو 13.5 مليار سهم؛ أي أكثر من 2 مليار سهم، وهذا بدوره قد يساهم في التسبب في رفع الأسعار في السوق الرئيسة بصورةٍ غير مبررة كنتيجة للتزاحم المفاجئ للسيولة الموجهة قسراً نحو هذه السوق بعد تعذر الأمر على أغلب المتعاملين في السوق الموازية. وهذا محتمل بشكلٍ كبير؛ غير معالجته ممكنة عبر المستقبل عن طريق وسيلتين ناجعتين:

الوسيلة الأولى - في الأجل القصير : إذا واجهت السوق بداية صعود شديد في الأسعار، يمكن أن تقوم هيئة السوق المالية بالتنسيق مع الجهات الحكومية وشبه الحكومية (صندوق الاستثمارات العامة، المؤسسة العامة للتأمينات الاجتماعية، المؤسسة العامة للتقاعد، الحكومة، ومؤسسة النقد العربي السعودي) التي تستحوذ على أكثر من 26.1 في المائة من إجمالي الأسهم المصدرة في السوق المالية، يستهدف هذا التنسيق تسييل بعض تلك الأصول متى دعت الحاجة، وهي أصول جاذبة جداً ستساهم في زيادة اتساع قاعدة السوق بصورةٍ تمنع من الارتفاع غير المبرر في أسعار الأصول المودعة في السوق الرئيسة، كما أنها أصول رابحة في أغلبها وتمتاز بجاذبيتها الداعية للاستثمار فيها مع ارتفاع وتيرة التوزيعات لديها. إذ تكشف الإحصاءات الأخيرة حول تلك الاستثمارات الحكومية وشبه الحكومية أنها تستأثر بنحو 13.8 مليار ريال من إجمالي التوزيعات النقدية التي دفعت خلال العام الجاري، أي ما يشكل أكثر من 42 في المائة من إجمالي توزيعات السوق المالية الأخيرة.

الوسيلة الثانية - في الأجلين المتوسط والطويل : وفقاً للصورة الجاذبة للسوق بعد التجزئة، فمن المتوقع أن تزداد جاذبيتها أمام الشركات العائلية والعملاقة المنتجة فعلاً خارج منصة الإدراج، ما سيشجعها على الانضمام إلى السوق الرئيسة؛ خاصةً بعد أن تتأكد لديها سلامة تعاملات السوق وعدالتها بعد التجزئة، وأن البيئة التنظيمية تضع محددات وضوابط تهدف للفصل بين الشركات الجيدة وذات الملاءة المالية المرتفعة من جهة، والشركات تحت التأسيس والصغيرة والتي تفتقر إلى ملاءة مالية متينة كالتي تتمتع بها العديد من الشركات العائلية والعملاقة خارج السوق. هذا من شأنه أن يساهم في الأجلين المتوسط والطويل في جذب تلك الشركات بصورةٍ مقنعة أكبر مما هو قائم الآن. هذا عدا أن هذه الخطوة ممثلة في تجزئة السوق المالية؛ ستساهم بصورةٍ كبيرة في الحد من إدراج أي من الشركات الهشة التأسيس أو الضعيفة الملاءة المالية.




 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد