استعرضنا الأسبوع الماضي قصة نجاح شركة نوكيا الفنلندية لإدارة المستقبل وكيف حققت القفزات الهائلة من خلال تنبؤها وحسن إدارتها للمستقبل، واليوم نستعرض تجربة أخرى رائدة وجديرة بالوقوف عندها وأخذ الدروس والعبر منها، تجربة بالإضافة إلى ما حققته من أرباح عالية، ساهمت هذه التجربة في إثراء الفكر الإداري، والعلوم والدراسات المستقبلية، وذلك من خلال تبنّيها وتطويرها لتقنية السيناريو، التي كانت موجودة من قبل ولكن كأفكار ونظريات، عندما أشار إليها (هيرمان) كان في الخمسينات أثناء عمله في مؤسسة الأبحاث الأمريكية (RAND)، ولكن انتقلت هذه التقنية من كونها فكرة إلى أرض الواقع والتطبيق العملي مع إدخال الكثير من التعديلات والتطوير عليها ، حتى أصبحت هذه التقنية مرتبطة بهذه الشركة، وقلّما تجد تعريفاً للسيناريو في الكتب الإدارية والمستقبلية دون ذكر تعريف هذه الشركة لهذا الأسلوب من التنبؤ بالمستقبل. وأصبحت تقنية السيناريو بعد تجربتها هي الأداة الأكثر رواجاً واستخداماً عند الكثير من الشركات في شتى أنحاء العالم.
شركتنا صاحبة التجربة هي شركة شل الملكية الهولندية، وتجربتها الرائدة عند تعاملها الجيد مع أزمة ارتفاع أسعار النفط نتيجة قرارات منظمة أوابك (منظمة الدول العربية المصدرة للبترول) عام 1973م، وإدارتها للأزمة بنجاح، وحققت من خلال ذلك كما ذكرنا قفزات عالية وأرباح مرتفعة، لأن الشركة وإدارتها كانت تعلم جيداً أن من يصنع أو يتنبأ ويتوقع أحداث المستقبل هو فقط من يسيطر عليه، ويتعامل معه بالطريقة التي يريد.
لقد قامت الشركة قبل حدوث أزمة 1973م بوقت كاف بعمليات الاستقصاء والبحث وتحليل البيئة الداخلية والخارجية ونقاط القوة والضعف لديها، والفرص والتهديدات، وإجراء الدراسات المستقبلية، استطاعت الشركة من خلالها استشراف المستقبل ووضع عدة تنبؤات مبنية على أسس ومناهج علمية، وبمساعدة من المفكر البلجيكي (بيير واك)، الذي كان يرأس مجلة فلسفية فرنسية قبل إقناعه للانضمام إلى الشركة للاستفادة من خبرته في مجال صياغة وإعداد السيناريوهات، تم صياغة عدة سيناريوهات لأحداث متوقعة في مجال النفط وأسعاره المبنية على توقعاتهم وتنبؤاتهم المستقبلية التي توصلوا إليها من قبل، مع وضع القرارات والآلية المناسبة للتعامل مع كل سيناريو، الأمر الذي جعلهم جاهزين للأحداث المتوقعة بإستراتيجيات وسيناريوهات مناسبة إذا حدث شيء من تلك السيناريوهات أو قريبة منها.
تلك الاستراتيجيات والسيناريوهات دفعت الشركة فيما بعد لكي تصبح على قمة شركات النفط الرابحة، وتقفز من شركة ثامنة في تصنيف شركات النفط إلى ثاني أكبر شركة نفط في العالم، وذلك بعد أن حدثت أزمة 1973م، عندما أعلنت الدول العربية المصدرة للبترول وقف تصدير البترول إلى الولايات المتحدة الأمريكية والدول الأخرى التي تؤيد إسرائيل في حربها ضد الدول العربية، ونتيجة لذلك قفزت الأسعار تقريباً أربعة أضعاف السعر السابق من 2.9 إلى 11.65 دولار أمريكي للبرميل، والتي كانت تلك الأحداث من ضمن سيناريوهات الشركة، واستطاعت الشركة أن تتعامل معها بآلية وقرارات مُعدّة ومدروسة مسبقاً، وبطريقة أفضل من منافسيها الأمر الذي جعلها تحقق أرباحاً عالية وفي المقابل هناك الكثير من الشركات المنافسة فشلت مع التعامل مع تلك الأزمة.
ولم يتوقف استخدام شركة شل لتخطيط السيناريو عند هذا الموقف ولكن استخدمته أيضا في عام 1980 لاستشراف حركة التغيير التي حدثت في الاتحاد السوفيتي السابق، لقد كان ذلك دافعاً مهماً للعديد من الشركات الأخرى حول العالم للاستفادة من تجربة شركة شل الرائدة في استخدام أسلوب السيناريو كأداة لإدارة المستقبل، وذلك لتأثيرها الفعّال على عمليات اتخاذ القرار.
بعد استعراض تجربة شركة شل الهولندية، وما حققته من نجاح باستخدام أسلوب السيناريو في تعاملها مع المستقبل، هناك سؤال يطرح نفسه للإدارات التنفيذية في شركاتنا أو حتى قطاعاتنا الحكومية. هل تم إعداد السيناريوهات المناسبة لأحداث مستقبلية متوقعة؟ كم عدد تلك السيناريوهات، وهل من ضمنها السيناريو الأفضل، والسيناريو الأسوأ والسيناريو المرغوب؟ هل تم إعداد الآلية والقرارات المناسبة للتعامل مع كل سيناريو؟ سؤال إجابته عند شركاتنا وقطاعاتنا الحكومية.
فالواجب أن يكون لدى كل مؤسسة أو منظمة سواء في القطاع الخاص أو العام عدة سيناريوهات مستقبلية وآلية التعامل مع كل سيناريو. وأن يكون ذلك ضمن خططها الإستراتيجية، ويتم مراجعتها بشكل مستمر وإجراء التعديلات اللازمة عليها لزيادة نسبة احتمالية وقوع السيناريو المرغوب، إذا ما أردنا النجاح وتحقيق الأرباح.
alaidda@hotmail.com