Al Jazirah NewsPaper Saturday  14/11/2009 G Issue 13561
السبت 26 ذو القعدة 1430   العدد  13561
بين الكلمات
النكوص والنهوض
عبدالعزيز السماري

 

دائماً ما يتكرر أكثر من تساؤل عن تأثير الدين والعلم على ثقافة المجتمع وتقاليده وتركيبته، وهل يمكن أن تتغير طبائع الإنسان عندما ينال الشهادة العلمية العليا، أم أن ثقافة التغيير لها معادلات أخرى غير الشهادة العليا، وبصورة أخرى لو تم إرسال ابن شيخ القبيلة للتعليم في جامعة السوربون أو في هارفارد، وبعد أن يعيش زمناً في كنف الثقافة الغربية، يعود بشهادة الدكتوراه إلى مرابع قبيلته، إلى حيث طبائعها التي كان يقود بها أبوه زمام الأمور في القبيلة في سالف الأزمان.. والسؤال هل سيخرج عن طريقة وتقاليد آبائه وأجداده في طريق رعاية القبيلة.. أم أنه سيلتزم بتقاليد القبيلة وطريقة أبيه بالرغم من حصوله على أعلى الشهادات العلمية؟

أجد من الصعوبة أن نصل إلى إجابة علمية محددة على هذا التساؤل، وذلك ربما لمحدودية تطبيقات العلم التجريبي في العلوم الاجتماعية، لكن الإجابة من الممكن أن نجدها من خلال رصد الأحداث الاجتماعية المعاصرة، ولو فعلنا ذلك لوجدنا أن فئة من المتعلمين في أحسن الجامعات الغربية، عادوا يحملون ثقافة غربية مختلفة، ويتحدثون من خلال لغة نخبوية متقنة، ويمارسون في حياتهم العائلية أساليب الحياة الغربية وعاداتها الحديثة، لكنهم في مجتمع القبيلة يمثلون ظاهرة النكوص بجدارة، ويعودون في لمح البصر إلى طبائع التقليد العشائري أو القبلي، ويؤدون أدوارهم من خلال تقاليدها القديمة، لكن عبر وسائل أكثر تنظيماً ورفاهية، ساهمت في نقل العهد الجديد من الخيام العربية إلى القصور المبنية على الطراز الغربي، واستخدام السيارات الفارهة للذهاب إلى مهرجانات الشعر الشعبي، وإدخال التقنية والإنترنت لإصدار بيانات المنتمين للقبيلة ونشرات مستحقاتهم ومواقع منتدياتهم.

لذلك لا أستبعد أن يأتي ذلك اليوم الذي يكون فيه جميع شيوخ القبائل العربية من حملة الدكتوراه من خريجي السوربون وهارفارد وغيرهما من الجامعات المرموقة.. ومع ذلك تظل ثقافة القبيلة تحكم الرعايا، وتزرع في داخلهم باستمرار الانتماء القبلي، والشعور بالفوقية على بقية الفئات في المجتمع، وبمفردات أكثر وضوحاً.. لا تتغير أحوال رعايا القبيلة، ولن تتبدل أنماط مشيخة القبيلة في العالم العربي إن حدث وتولى ابن شيخ القبيلة خريج جامعة السوربون منصب أبيه في القبيلة.. فالقضية لها أبعاد أكثر عُمقاً من تعليم ابن الشيخ في جامعة السوربون..!

يذكر أحدهم طرفة تحمل دلالات رمزية، وتكاد أن تكون أكثر تعبيراً عن جذور ذلك النمط الاجتماعي الأصيل، إذ يذكر أن ابن شيخ إحدى القبائل الأفريقية من أكلة لحوم البشر، تم إرساله إلى بريطانيا من أجل أن يتعلم أصول وأساليب الحضارة الغربية السياسية والاجتماعية، وبعد أن قضى عقداً من الزمان في دراسة العلم وآخر المستجدات العلمية في الجامعة البريطانية، نال الشهادة العليا، وخرج من أبواب الجامعة إنساناً متحضراً بعادات الغرب وطبائعه، يلبس البذلة الغربية الأنيقة، ويتقن طريقة اختيار ربطة العنق اللائقة، ثم عاد إلى أدغال قبيلته، وأقيمت الاحتفالات في ميدان القبيلة، وحضر أساتذته الغربيون المناسبة، ليشهدوا بدء عصر التحول الحضاري في القبيلة، لكن آمالهم لم تستمر طويلاً فقد هالهم منظر مروع، إذ تم ذبح أحد رجال القبيلة تكريماً لابنها العائد إليها بعد غياب، من أجل إعداد وليمة المهرجان الاحتفالي، وتحضيره كطبق شهي للضيوف، والكارثة أن الابن شارك رعايا القبيلة تناول لحم الضحية، وظهرت خيبة الأمل على وجوه الأساتذة الغربيين، لكن ذلك لم يمنعهم من طرح سؤال على تلميذهم السابق وخريجهم الجديد عن عدم التزامه بالعادات والطبائع الغربية وأصول العلم الحديث التي تعلمها أثناء بعثته، فأجابهم: ولكنني ملتزم بالطبائع الغربية..؟ ألا ترون أنا أستعمل الشوكة والسكين عند تناول اللحم..

خلاصة الأمر أن التعليم العالي الذي يتم اختصاره في طبقات محددة لا يغيّر أنماط التركيبة الاجتماعية، ولا يقف ضد ظاهرة النكوص، ولا يؤدي إلى تطوير حقيقي، ولكن قد يعزز سلطاتها البالية بالعلوم الحديثة، وبفنون الإدارة، ويكمن سر النهوض في منح الطبقات الدنيا مساحات أكبر في التعليم العالي، وذلك من أجل بروز الكفاءات والقيادات من مختلف الطبقات الاجتماعية، والذي بدوره سيعزز الوعي ويُكرس بامتياز لخدمة الوطن والمجتمع، ولعل ما حدث في الولايات المتحدة الأمريكية منذ خمسة عقود كان له التأثير الإيجابي على إنتاج القيادات الجديدة في المجتمع، إذ تمَّ فرض نسب أعلى لمواطني الأقليات في الجامعات القيادية، وكانت النتيجة بعد خمسة عقود وصول أحد هؤلاء إلى منصب رئيس الولايات المتحدة الأمريكية.




 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد