الحمد لله الذي فرض على عباده الحج إلى بيته الحرام، وجعل ذلك تطهيراً للنفوس من الذنوب والآثام، أحمده تعالى وأشكره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم.. وبعد:

إن من أعظم الدروس الجليلة التي يفيدها المسلم في حجه لبيت الله الحرام وجوب إخلاص العبادات كلها لله وحده لا شريك له، فالحاج أول ما يبدأ حجه بإعلان التوحيد، ونبذ الشرك، في قوله: (لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك).

إن التلبية شعار الحج التي تتضمن إفراد الله وحده لا شريك له بالعمل، كما جاء في حديث جابر عند مسلم رضي الله عنه قال: (فأهل بالتوحيد لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك)، قال ابن عمر -رضي الله عنهما- :(لا يزيد على هؤلاء الكلمات)، وفي حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في تلبيته: (لبيك إله الحق لبيك).

والحاج حينما يردد هذه التلبية، والممتدة من وجوب النسك إلى رمي جمرة العقبة، يرددها ويرفع بها صوته، وهو في الوقت نفسه يستشعر ما دلت عليه من وجوب إفراد الله وحده بالعبادة، والبعد عن الشرك فكما أن الله -تعالى- متفرد بالنعمة والعطاء لا شريك له، فهو متفرد بالتوحيد لا ند له، فلا يدعى إلا الله، ولا يتوكل إلا على الله، ولا يستغاث إلا به، ولا يصرف أي نوع من أنواع العبادة إلا له.

وكما أن العبد مطالب بقصد الله وحده في الحج، فهو مطالب بقصده وحده في كل عبادة يأتيها، وكل طاعة يتقرب بها.. فمن صرف شيئاً من العبادة لغير الله، أشرك بالله العظيم، وخسر الخسران المبين، وحبط عمله ولم يتقبل الله -تعالى- منه صرفاً ولا عدلاً.

وقد جاء الإسلام بهذا الإهلال العظيم، الإهلال بتوحيد الله، وإخلاص الدين له، والبعد عن الشرك كله صغيره وكبيره، دقيقه وجليله، بينما كان المشركون عباد الأصنام والأوثان يهلون في إحرامهم بالحج بالشرك والتنديد، فكانوا يقولون في تلبيتهم: (لبيك لا شريك لك إلا شريكاً هو لك تملكه وما ملك)، فيدخلون مع الله في التلبية آلهتهم الباطلة، ويجعلون ملكها بيده، وهذا هو معنى قول الله عنهم: (وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللّهِ إِلاَّ وَهُم مُّشْرِكُونَ)، أي وما يؤمن أكثرهم بالله بأنه الخالق الرازق المدبر، أي بتوحيد الربوبية إلا وهم مشركون معه بالعبادة أوثاناً لا تملك شيئاً، وأصناماً لا تنفع ولا تضر ولا تعطي ولا تمنع، بل لا تملك من ذلك شيئاً لنفسها، فضلاً عن أن تملكه لغيرها، لقد كان المشركون من زمن النبي -عليه الصلاة والسلام- يقرون أن رازقهم وخالقهم ومدبرهم هو الله، ثم هم مع هذا الإقرار لا يخلصون الدين له، بل يشركون غيره في العبادة من الأشجار، والأحجار، والأصنام.. وغيرها.

قال الحافظ ابن كثير -رحمه الله- في تفسيره: (يقول -تعالى- مقرراً أنه لا إله إلا هو لأن المشركين الذين يعبدون معه غيره معترفون أنه المستقل بخلق السماوات والأرض، والشمس والقمر، وتسخير الليل والنهار، وأنه الخالق الرازق لعباده، ومقدر آجالهم واختلافها، واختلاف أرزاقهم، ففاوت بينهم، فمنهم الغني ومنهم الفقير، وهو العليم بما يصلح كلاً منهم، ومن يستحق الغنى ممن يستحق الفقر، فذكر أنه المستبد بخلق الأشياء، المتفرد بتدبيرها، فإذا كان الأمر كذلك فلم يعبد غيره؟ ولم يتوكل على غيره؟ فكما أنه الواحد في ملكه، فليكن الواحد في عبادته، وكثيراً ما يقرر -تعالى- مقام الإلهية بالاعتراف بتوحيد الربوبية، وقد كان المشركون يعترفون بذلك كما كانوا يقولون في تلبيتهم: (لبيك لا شريك لك إلا شريكاً هو لك تملكه وما ملك).

إن التلبية مشتملة على الإهلال بتوحيد الله -عز وجل-، ونبذ الشرك، كما تقدم في حديث جابر، فوصف رضي الله عنه هذا الإهلال بأنه الإهلال بالتوحيد، لأنه فيه الإخلاص لله، ونبذ الشرك، وهذا يدل على أن هذه الكلمات -أعني كلمات التلبية- ليست ألفاظاً مجردة لا تدل على معان، بل لها معنى عظيم ومدلول عميق، ألا وهو روح الدين وأساسه وأصله الذي ينبني عليه توحيد الله -تعالى-.

ولهذا فإن الواجب على كل من أهل بهذه الكلمات العظيمة، أن يستحضر ما دلت عليه من معنى، وأن يعرف ما تضمنته من دلالة، ليكون صادقاً في إهلاله، موافقاً لكلامه حقيقة حاله.. بحيث يكون مستمسكاً بالتوحيد، محافظاً عليه، مراعياً للحقوق، مجانباً تمام المجانبة لنواقضه، وما يضاده من الشرك والتنديد.

أسأل الله أن يجعلنا له موحدين، وبالحق مستمسكين، وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.