ثالثاً: كثير من الناس يتعلّقون بباب الكعبة، في كثير من الأوقات ويلتزمون به، وأعتقد أنّ فعلهم هذا في غير محك، وإنما شرع في حقّ الحاج بعد انتهائه من طواف الوداع، قال بعض العلماء: إنّ الحاج إذا أراد الخروج من مكة، مسافراً لبلده، بعد استكمال مناسكه، فإنه يطوف سبعاً، ويصلي ركعتين خلف المقام، إذا أمكن..
.. والحرم كلّه مقام إبراهيم، ثم يدعو تحت الميزاب، ويشرب من زمزم، ويتزود منه، ويلتصق بالملتزم بصدره ووجه، ويبسط عليه يديه، كما أشار إلى ذلك الشيخ عبدالله بن بليهد رحمه الله، في كتابه: جامع المسالك في أحكام المناسك وغيره.
هذا إذا تيسر وبدون مزاحمة، وإضرار بالحجاج، ومع كثرتهم في السنوات الأخيرة، فإن من التيسير عدم فعل ذلك.
رابعاً: ومن البدع أيضا ما يفعله بعض الحجاج، بعد انتهائهم من طواف الوداع فإنهم يرجعون القهقرى - أي مستقبلين الكعبة، مستدبرين أبواب الحرم - من عند الكعبة بعد انتهاء الطواف، باتجاه باب الوداع.
وهذا لم يرد به شيء في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، بل يكفي أحدهم طواف الوداع والخروج من الحرم مع أي باب من أبواب الحرم، ولا محذور من استدبار الكعبة عند الخروج من الحرم، وقد أشار سماحة الشيخ عبدالعزيز بن باز إلى ذلك في كثير من المناسبات سواء في فتاواه أو كتاباته الكثيرة، أو في أحاديثه وإرشاداته، على عدم مشروعية هذا العمل يعني القهقرى.
خامساً: ومن البدع المتكررة، والاعتقادات التي لا مستند عليها ما يفعله كثير من الناس عند نزول المطر، من وقوفهم تحت ميزاب الكعبة وتزاحمهم عليه، لكي ينزل الماء على رؤوسهم وثيابهم وأجسامهم، يقصدون من ذلك التبرك به، ولا شك أن ماء المطر الذي يقع على ظهر الكعبة، هو كغيره من المياه، التي تقع في سائر الحرم، وأرجاء مكة فليس لشيء منه خاصية أو بركة، ولكن يا مقلب القلوب ثبت قلوبنا على طاعتك، ومن يجلس في الحرم، أو في الساحات المحيطة به ومثله المسجد النبوي عند نزول المطر يرى الناس وهم يتسابقون إلى الماء النازل من الميزاب، فيأخذه العجب، إذ قد يقع أحدهم على رأسه وهو يجري فيحصل له ضرر كبير وهذا مشاهد. ولكن الذي ورد فيه أثر: عند نزول المطر في أي مكان أن يخرج الإنسان رحله أو يكشف رأسه ليمسّ منه لأنه حديث عهد بربه.
سادساً: ومن العادات أيضا: ما يفعله بعض الحجاج من تعلقهم بثوب الكعبة ودخولهم تحته، وتقبيله مع تقبيل جدران الكعبة، مع إدخال أيديهم تحتها، وفي الحلقات النحاسية التي ربط بها الثوب، والتمسح بجدران المسعى وشبابيكه، والحواجز الحديدية والدبزونات، طلباً للبركة، ولو تيسر لهم حل شيء ولو كان صغيراً جداً من الأبواب والشبابك ليأخذه لبلاده لما تأخر.. وغير ذلك من تصرفات ما أنزل الله بها من سلطان، فإن البركة تطلب من الله، وليس من هذه الأشياء التي جاءت مصنعة من الخارج، كغيرها من الأمور التي يستعملها الناس في بيوتهم ولا خصوصية لشيء يستعمل في الحرم عن غيره.
سابعاً: ومن البدع ما يفعله بعض الناس، من التسابق إلى حجر إسماعيل بعد كل صلاة والحرص أن تكون صلاتهم تحت الميزاب، والاتكاء على الشاذروان، والبلاط المميز الذي وُضع تحت الميزاب الملفت للنظر لأنهم يعتقدون أنه لم يوضع بهذه الميزة إلا لحكمة يبحثون عنها أو يكون وراءها اعتقادات عندهم.
فنرى بعضهم يتسابقون بعد كل صلاة حتى صلاة الفجر، ويصلون في هذا المكان، وهو وقت نهي، لأن الصلاة بعد الفجر منهي عنها، حتى ترتفع الشمس قيد رمح، كما أخبر بذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلا من ذوات الأسباب، وقد يقول قائل: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: يا بني عبد مناف لا تمنعوا أحداً طاف بهذا البيت، وصلى متى شاء، في ساعة من ليل أو نهار - أو كما قال عليه الصلاة والسلام.
فكيف ينا نقول: إن الصلاة لا تجوز بعد صلاة الفجر، وفي الحجر الذي هو من الحرم، أو خلافه؟.
والجواب: أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - خص الطواف بقوله: لا تمنعوا أحداً طاف بهذا البيت ليلاً أو نهاراً - قال العلماء: إن الطواف هو تحية المسجد الحرام، ومن لوازم الطواف ركعتين، عرفتا باسم: ركعتي الطواف، التي تؤدى في المسجد بأي مكان، لكن إن تيسر تأديتهما عند مقام إبراهيم، فهو حسن وإن لم يتيسر إلا بمزاحمة الطائفين، فتؤديان في أي مكان من المسجد، وهذا من اليسر، وتحية المسجد من ذوات الأسباب.
ولم يخصص حجر إسماعيل بعبادة معينة، إلا ما روي في حديث عائشة رضي الله عنها: أنها أبدت لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - رغبتها بالصلاة في الكعبة، فقال لها: صلي في الحجر فإنه من الكعبة، فإنّ قومك - يريد قريشاً - لما بنوا الكعبة قَصُرت بهم النفقة، فأحاطوا الحجر، ولذلك لا يجوز صلاة الفريضة فيه، كما هو الحكم لداخل الكعبة، وإنما تصلي فيه النافلة، وتستقبل الكعبة، وقد روي عن عروة بن الزبير، ومجموعة من علماء التابعين أنهم يجلسون بعد الصلاة في الحجر يتذاكرون العلم.
ثامناً: ومن العادات التي يستعملها بعض الحجاج وليس لها أصل شرعي، ما يفعل بعض الحجاج، من غسل بعض الأقمشة البيضاء من ماء زمزم، ونشر ذلك في أرجاء الحرم، ومن ثم الاحتفاظ به، ليكون أكفاناً لهم عندما يأتي الأجل لأنه يشفع لهم. وهذا الاعتقاد قد يجرّ إلى ما يقدح في العقيدة، إذا كان هناك اعتقاد معين، إذْ التكفين بالثوب المغسول بماء زمزم لا يجدي صاحبه نفعاً، ولا يدفع عنه ضرراً، وإنما الذي يجده أمامه بعد سؤال الملكين هو عمله الذي قدمه في الدنيا، والمُحْصى عليه، فإن كان قدم خيراً، فسوف يجد ذلك أمامه، وإن كان عمله شراً، فهو محصى عليه ومقيد ولا يظلم ربك أحداً، والخير هو ما كان لله وقصد به وجه الله: عقيدة وعملا، وتعاملا مع البشر، والشر ما كان بعكس ذلك الخير نسأل الله السلامة، والعاقل هو من يحاسب نفسه في الدنيا، قبل المحاسبة في الآخرة (والله لا يظلم أحداً)، (فمن زرع حصد)، لأن العمل ما كان عن الله ووفق سنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -، فهو الخير، وما خلفهما فهو الوبال على صاحبه.
تاسعاً: ومحظورات الحج تسعة، وهي الممنوع فعلها، فاحرص عليها أيها الحاج حتى يكتمل حجك ويكون مبروراً، وهي:
الأول: الحلق من جميع البدن بدون عذر للرجال والمراد بحضرها وجوب الكفارة والفدية بها.
الثاني: تقليم الأظافر أو قصها من يد أو رجل بلا عذر، فإن خرج بعينه شعر أو انكسر ظفره فأزالهما، إزالة مع غيرهما فلا فدية عليه.
الثالث: تغطية رأس الرجال، لأن إحرام الرجل في رأسه، والمراد بملاصق، أما غير الملاصق للرأس كالشمسية عن الحر أو المطر فلا بأس بها.
الرابع: لبس المخيط على البدن كله أو بعضه كالسراويل، إلا المنطقة والهيمان الذي يحف فيه نفقته فهذا مباح للمحرم.
الخامس: الطيب في البدن أو الثوب، لأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، أمر يعلى بن أمية بغسل الطيب، والحكمة أن يبتعد عن الترف، وزينة الدنيا، وإذا تطيب ناسياً، لزمه إزالته مهما أمكن بالماء أو الحك.
السادس: قتل صيد البر، أو اصطياده لقول الله تعالى: {لاَ تَقْتُلُواْ الصَّيْدَ وَأَنتُمْ حُرُمٌ} (سورة المائدة:95) أما صيد البحر كالأسماك وغيرها فلا بأس.
يقول سبحانه:{أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَّكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا} (سورة المائدة: 96).
ويحرم بالإحرام قتل النمل وصئبانه ولا جزاء فيه وكذا البعوض والبرغوث والقراد وكل شيء يؤذي لأنه ليس بصيد.
السابع: عقد النكاح فلو تزوج محرم، أو زوَّج محرمة، أو كان ولياً أو وكيلاً في النكاح حرم، ولا يصح لما روى مسلم عن عثمان مرفوعاً: (لا يَنْكح المحرم ولا يُنْكح) لكن لا فدية في عقد النكاح، ولا في شراء الصيد، كما يكره للمحرم أن يخطب امرأة، كما يكره له قراءة عقد النكاح (أي الخطبة).
وتصح الرجعة: أي لو راجع المحرم امرأته، صحت بلا كراهية لأنه إمساك.
الثامن: الوطء ولذا فإنه قال: ويحرم الجماع لقوله تعالى: {فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِّ} (سورة البقرة 187). قال ابن عباس الرفث هو الجماع، فإن كان الوطء قبل التحلل الأول، فسد نسكهما ولو بعد الوقوف بعرفة، ولا فرق بين العامد والناسي، والتحلل الأول يحصل بفعل اثنين من ثلاثة، رمي وطواف وحلق، فإنه يفسد حجه وعليه بدنه، وبعض العلماء لا يرى فساد الحج بمن جامع ناسياً وهو رأي للشافعي، وعلى الحجاج أن يحذروا ما يفسد النسك لأن بعضهم يتعمد الوطء في يوم عرفة وعلى من فسد حجه بالجماع أن يتمه، وبقضيانه وجوباً ثاني عام كما روى عن بن عباس وابن عمر وعبدالله بن عمرو ويرى كثير من العلماء، أن يفرق بينهما لأنهما لا زالا في الإحرام حتى يقضيانه في السنة التالية، حيث رُوي عن عمر وعلي، وأبي هريرة وابن عباس، فحكمه حكم الإحرام الصحيح، لقوله تعالى:{وَأَتِمُّواْ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلّهِ} (سورة البقرة 196).
التاسع: المباشرة دون الفرج، وذكرها الفقهاء بقولهم: وتحرم المباشرة في الرجل لامرأته، فإن فعل فأنزل لم يفسد حجه لعدم الدليل، لأنه استمتاع، ولا يصح قياسها على الوطء لأن الوطء يجب به الحد وعليه بدنه إن أنزل بمباشرة. وقد توسع الفقهاء في كتبهم في هذا، بيد الإلزام وعدمه بحسب كل حالة. والمرأة كالرجل في الإحرام ومحظوراته إلا في اللباس، فلا يحرم عليها لبس المخيط، ولا تغطية الرأس بل تجتنب البرقع والقفازين، لقوله - صلى الله عليه وسلم -: (لا تنتقب المرأة ولا تلبس القفازين) رواه البخاري وغيره. والقفازان شيء يعمل لليدين، يدخلان فيه يسترهما من الحر والقرّ.
وتجتنب المرأة تغطية وجهها لقوله - صلى الله عليه وسلم -: (إحرام الرجل في رأسه، وإحرام المرأة في وجهها) رواه الدارقطني عن ابن عمر موقوفا، قال ابن القيم: ما روي في إحرام المرأة في وجهها لا أصل له، ولا تقوم به حجة، وبه قال ابن تيمية، وقالت عائشة رضي الله عنها: (كان الركبان يمرون بنا ونحن محرمات مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فإذا حاذونا، سدلت إحدانا جلبابها على وجهها، فإذا جاوزونا كشفناه) رواه أحمد أبو داود وغيرهما.
ويباح للمرأة وهي محرمة في الحج والعمرة التحلي بالخلخال والسوار والدملج ونحوها، وليس لها الخضاب عند الإحرام وكره بعد الإحرام.. كما يكره الاكتحال للرجل والمرأة بالأثمد للزينة، وليس للمرأة تقيد في لون معين من لباس الإحرام، فلها أن تلبس المصفّر والكحلي، وكل مصبوغ بفيرورس أو زعفران. وليس في الحج قلّة الكلام، إلا فيما ينفع، ويسن شغل الوقت بالدعاء والاستغفار وذكر الله.
ولكي يطمئن الحاج على أن حجه مبرور، ودُعاءه مستجاب إن شاء الله، فإنه يجب أن يلتزم في كل شأنه دلالة هذه الآية:{الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللّهُ}(سورة البقرة 197).
ومع التأدب بآداب الحج والاقتصار على العبادات دون إيذاء للآخرين، فيحاسب نفسه عن أمور تفسد حجه، وإن كان عنده فيها شيء فيعزم التوبة وعدم الرجوع فيها، مثل أكل وشرب واستخدام كل شيء حرمه الله، وترك المعاصي والمحرمات، والإخلال بالواجبات التي أمر الله بها وأوجبها، كالصلاة والزكاة وبر الوالدين، أو أنْ يدعو بإثم أو قطيعة رحم، لأن دين الله يأمر بكل خير وطيب، وينهى عن الفحشاء والمنكر وكل شيء مدخله خبيث.