Al Jazirah NewsPaper Wednesday  11/11/2009 G Issue 13558
الاربعاء 23 ذو القعدة 1430   العدد  13558
الإضراب عن الكتابة
د. فوزية عبدالله أبو خالد

 

كأن بين الكتابة وبيني حالة من الجفاء والصد. ولا أدري هل هي منها أو مني أو بسبب الأحوال العامة أو أنه ذنب مشترك. كأنني على غير عادتي في الشوق الجارف لأوقات الخلوة بها, أحس كلما اقترب موعدها بأنني أستعد للذهاب إلى تهلكة أو بأنني اقترب عزلاء إلا بتباريح الروح وعوادم الهواء من حافة هاوية مريعة لا أدري من هي الأيدي التي تدفعني إلى قاعها، كما لا أدري أي الأيدي أو الأظلاف ستتلقفني فيها وتهيل ترابها على قامتي.

فلا يسمع أحد من قراء تربت على أيديهم أجنحتي دقات قلبي قبل أن تطفأ يدي شاشة الكمبيوتر لتكون آخر ما يدخل من ضيق جثماني إلى فسحة قبري.

لذا أحرك أصابعي المستعصية على لوحة مفاتيح الكمبيوتر في محاولة الكتابة بينما الحروف الحرون تنأى.

يؤنبني ضميري على تخلفي عن موعد المقال لأكثر من أسبوع مثلما كنت أشعر وأنا تلميذة صغيرة فيما لو تغيبت عن المدرسة. أستحي من تساؤلات القراء و من تسامح أبو بشار- أ. خالد المالك ومن لطف عبدالإله القاسم ودماثة محمد الفيصل البليغة ومن تهذيب فيصل المبارك وهي تحرجني من حيث لا تدري أو من حيث تريد بصبرها النافذ على إضراب الكتابة الذي حل بي. وكالرجع الموجع للنداء الأخير لرحلات الطائرات قرب إغلاق الأبواب وسحب المدرج، تعتريني تلك المشاعر التي هي مزيج من الإحجام والإقدام، التراجع والتقدم، التمسك والتخلي، الاستماتة واللامبالاة، الرهبة واللهفة عندما نكون على حافة شفرة أو على شفير أن تفوتنا رحلة. إلا أنني أوشك أن أمضي في تجاهلها جميعا إلى أن ينبثق من آلام الصد الصامت بيني وبين حرفتي وهوايتي موتي وحياتي - الكتابة ذلك الصوت الذي له سطوة التهديد بالفقد لنقذف بأنفسنا بكل ما أوتينا من سرعة الحركة باتجاهه، وكأننا لم نعد نملك من أمر خياراتنا إلا عدم التأخير للحاق بما يكاد يصير في حكم المفقود. إذ عندها كما لا يعبأ القبطان بتلك السواعد المعلقة بين اليابسة وبين البحر وهي تلوح مناديل الوداع المبللة بلوعة الفراق وتوجس المجهول بعدم العودة، فإن رئيس التحرير لن يقبل بأن يتسامح إلى أجل غير مسمى عن غياب الكُتّاب من الملتزمين بمواقع أسبوعية وذلك وإن لم يكن شغفا بحضورهم وتوقا لكتاباتهم على الأغلب فإنه احتراما لقرائهم وإشفاقا على الكتاب من استسلامهم لتهور أمزجتهم أو زهو إضرابهم.

كما أنه وإن تعاطف مع ما يراه من تقيح جراحهم أو تشقق أوردتهم على الورق، فإن ليس له أن يفض تلك الاشتباكات الدامية بين الكاتب وبين كتابته. وكل ما في وسعه أن يطلب من الكاتب أن يغسل كلماته من دمائه وسهره وسخطه وغضبه ومن وحم الكتابة ومخاضاتها قبل أن تصل إلى مكتب رئيس التحرير أو عيون القراء (وإن كانت عيون القراء لماحة وتقرأ ما تحت الجفون من هالات السهر أو ما أخفاه الكاتب من دموع)، على ألا يستغرقه ذلك تأخير المقال عن موعده, خاصة إذا كان التأخير لأكثر من أسبوعين. والموقف الصعب هنا هو كيف يمكن الكتابة عن الحب، البلح، الحرية، التسامح، الحد، اللحد، الحمل، الحلم، الروح، النجاح، الانسحاب، الحنطة، التباريح، الرحيل، القبح، الحلى، الحلال، الحرام، البحر، السحاب، الصحراء، التفاح، الحوار، الحرب، الضحايا، الحياة، حمامة السلام، الأحياء والوحدة الجارحة دون استخدام حرف الحاء. كيف يمكن الكتابة عن وحشية الحروب إذا طمست جثث القتلى وأحرقت السجلات التي تدل على أنهم كانوا هناك أحياء يرزقون ويستعدون لعرس أو لتخرج أو للالتحاق بعمل أو جامعة قبل اشتعال تلك الحروب بدقائق أو أقل.

هل يمكن الكتابة عن العدل، المساواة، الأخوة، الصداقة، الشعر، التشكيل، السينما، الأرض، السماء، الشمس، القمر، الأمل، الماء، الصبر، الطفولة، العنفوان، الإباء، الجمال أو الوجه الحسن بغير أشواق المجتمعات البشرية ومحاولاتها الفاشلة والناجحة معا على مر العصور لاستدراج تلك الكلمات المتكبرة خارج القاموس وتوطينها بين الناس. وهل يمكن كتابة تلك الكلمات بحبر سري لا يلحظه حراس اللغة الذين يتذرعون في محاصرتها بالخوف عليها من النزول إلى الشارع والاختلاط بالأطفال والحالمين والعشاق والشعراء.

هل يمكن الكتابة عما يجري في العالم اليوم وما يجري على الأرض العربية بالقفزات بينما المخالب والخطافات تخترقنا فتزيد من تخبطنا وشتاتنا وضبابية خياراتنا وعجزنا عن تقبل اختلافنا وتردينا في تخلفنا وانقسامنا بيننا. هل بنا حاجة في هذه اللحظة إلا إلى كتابة إذا لم تقل كلمة حق فعلى الأقل لا تولم لنا بآلامنا ولا تدخلنا في نفق النفاق أو اليأس أو الفرقة ولا تورطنا في قصر نظرها أو آنية مصالحها. فأي كتابة إلا تلك الكتابة التي تتلوى كأفعى وتحط على فرائسها كعقاب أو تسكت في كلامها كشيطان أخرس؟.

نحتاج إلى كتابة لا تتشفى بنا ولكنها في نفس الوقت لا ترتكب جريرة تجميل أخطائنا أو تشجيعنا عليها. كما نحتاج إلى كتابة تبحث وتحلل ولا تكتفي بدور الترديد أو تقبل بدور الشاهد الغائب. ففي هذه اللحظة هناك تطورات كبيرة مرعبة ومربكة ومغضبة ومثار للمساءلة على المستويين الداخلي والعربي والإقليمي والدولي. فعلى مستوى حدودي قريب هناك المواجهات العسكرية الفاجعة غير المعهودة في تاريخ المملكة الجواري عبر مسيرة البلاد بما تثيره هذه المواجهة من تساؤل مبرح عن دوافع إشعال حدودنا بها، وقلق جارف من تطوراتها مع الدعاء إلى الله أن ينجي البلاد والعباد والوحدة الوطنية مما تتعرض له المنطقة من انشقاق واقتسام. كما أن هناك أحلام المواطن بالأمن والسلام وبحياة كريمة لا تهدد وحدتها ويلات حرب أو رعب تشظي أو تشتت في وطن حر مستقل شامخ. وعلى المستوى الخارجي هناك الوضع اللامطمئن على الساحة الفلسطينية وعلى الساحة العراقية، ناهيك عن الأوضاع في أفغانستان والباكستان والصومال وهناك الخلايا النائمة والنشطة كلما ظنناها ماتت لمشروع الشرق الأوسط الكبير الذي لا تزال خطورته تتكشف. إن هذا التعقيد هو ما يجعل الكتابة أمرا في غاية الضراوة والدقة والمسؤولية الجسيمة. لأن الكتابة في هذه اللحظة تحتاج إلى الحس النقدي في التحليل، تحتاج إلى عيون زرقاء اليمامة لمحاولة استبصار ما وراء تحرك الشجر، وتحتاج إلى بوصلة إستراتيجية في الرؤى، كما تحتاج إلى العقلانية والحرية في التفكير.

وهذا النوع الصعب من الكتابة الذي نحتاجه هو التحدي الذي يحدوني لأن أشعر كلما اقترب موعد المقال بفداحة المسؤولية وبعظم الأمانة التي يلقيها على كاهلي الناحل واجبي الديني والوطني، حبي المبرح لتراب هذا الوطن وحرصي على لحمته الوطنية.

هذا ولله الأمر من قبل ومن بعد.




 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد