عندما تخرج من منزلك وتستوقفك أول إشارة مرور تتوقع من يطرق زجاج نافذة سيارتك بطرقات تكاد من شدتها تكسر زجاجها ربما فزعاً من رجال مكافحة التسول أو محاولةً لاغتنام أكبر قدر من التعاطف قبل أن تسمح إشارة المرور للسيارات بالسير وتقفل أمام المتسولين بارقة الأمل في الحصول على الغنيمة.
لقد انتشرت ظاهرة التسول في الأماكن العامة بمدننا الكبرى بشكل كبير وأصبحنا نرى عددا كبيرا من الأطفال والنساء وفي أحيان كثيرة رجالاً يتسولون المارة سواءً بسياراتهم أو راجلين بغية الحصول على المال ويستخدمون في ذلك ما يكفي من وسائل وأدوات عينية لاستدرار عطف الناس وشفقتهم وعطفهم فضلاً عن استخدامهم لجمل وكلمات حزينة واصفين من خلالها أوضاعهم المزرية، ويذكركثير منهم المارة بفضل الصدقة ومساعدة المحتاج متسلحين ببعض الآيات وكثير من الدعاء الذي يرقق الفؤاد ويحزن الضمير ويجعل من يسمعه يهم دون تفكير أو وعي بمد يده إلى حيث ماله ليمنحه منه ما تجود به نفسه.
والكثير من الناس من لا يستوقفه منظر المتسول ولا تستعطفه استجداءاته ربما ليقينه أن كثيرا منهم قد تم استخدامهم لجمع المال من قبل عصابات امتهنت تجارة استعطاف واستجداء الناس واستخدمت لذلك ما تستطيع من أجل إنجاح مشروعه ذلك.
ولو حصل أن تأمل أحدنا تحركات ونشاط المتسول عند إشارات المرور لاكتشف بما لا يدع مجالاً للشك أن المتسول يحاول قدر إمكانه الفوز بأكبر نصيب من الغلة وبشكل لا يخلو من التوجس والترقب والخوف من رجال مكافحة التسول، فهو يقوم خلسة بالاقتراب من الشخص الهدف ويطرق بيده زجاج النافذة ويومئ بحركات وإشارات أنه في حاجة وأن ما يمكن أن يدفعه الشخص المستهدف سيكافىء عليه من الله جل وعلا وذلك من خلال إشارته بيده للسماء، أما إذا قُدر له الحديث إذا ما فتح أحدهم نافذة السيارة فإنه لا يتوانى في ذكر ظروف مبكية محزنة ألمت بعائلته ويطلب المساعدة بطريقة تكاد تكون موحدة لدى غالبية المتسولين وكأن ثمة اتفاقا بينهم على ذلك. فالملاحظ على المتسولين في غالبيتهم أنهم لا يطلبون المساعدة لأنفسهم بل لأشخاص آخرين من عائلتهم ويتذرعون بأن أمرا ما قد حل بهم وهو موكل على مساعدتهم ولا يستطيع لذلك سبيلاً سوى من خلال طلب مساعدة الناس ويستخدم المتسول في ذلك ألفاظا موحدة كما ذكرت آنفاً كقوله (لله يا محسن) أو (مساعدة لله) أو يطلب المساعدة بشكل مباشر (ساعدني لله) والملاحظ أيضاً أن لفظ الجلالة غالباً ما يتم نطقه من قبلهم أو رفع اليد أو الأصبع للسماء في إشارة لوجود الله سبحانه وتعالى وهو - أي المتسول - يحاول بذلك أن يقول: إن ما أتاك من مال إنما هو من عند الله وما أنا بطالب إلا ما عند الله لكن منك أنت وعليك أن تعطيني مما أعطاك الله. وقد يستخدم المتسول أيضاً أسلوب استعطاف المانح للمساعدة من خلال الدعاء له إن كان بمفرده أو لمن معه إن كان مصحوباً بأطفاله أو زوجته أو العكس في محاولة من المتسول لممارسة ضغط سيكولوجي على الرجل أو المرأة من خلال استجدائه أمام أطفاله ليثبت لهم الجانب الخيّر فيه أو فيها.
لست بوارد ذكر أساليب المتسول ومحاولاته وإثبات عدم حاجته من عدمها فذلك أمر لا أعلمه ولا أزعم ذلك، لكنني أحاول أن أصف حال من لا يضعُف أمام المتسول ويتركه خلفه دون تقديم المساعدة له، فقد يصيب هذا الرجل بعض من عذاب الضمير إن هو فعل ذلك وتبدأ محاسبة النفس وربما جلد الذات لاحقاً.
ينشأ عادةً صراع لدى من يتعرض لسؤال متسولٍ ما فإن هو ساعده ظن به أنه لا يستحق المساعدة وأن ما دفعه له يُعتبر تحايلا عليه وأنه قد استغفله وأخذ منه مالاً غير مستحق بتقديمه لحجج واهية مرت على المانح مرور الكرام، وإن هو امتنع عن مساعدته ظن أنه أخطأ بعدم منح السائل قليلا من المال الذي أعطاه إياه الله جلت قدرته وأن ثمة شخصية شريرة داخله أوحت إليه بأن المتسول إنما يحاول استغفاله وأخذ ماله دون وجه حق. فلا هو الذي شعر بالسعادة إن منح ولا هو الذي شعر بالانتصار إن امتنع، ويبدأ الصراع ولا ينتهي إلا إذا تصادف وجود الشخص أمام متسول آخر فربما يغدق عليه دون حساب في محاولة للخلاص من الشعور بالذنب.
لست ضد المتسولين ولا أعمم كلامي، فللناس أعذارهم ولهم ظروفهم التي لا يعلم بها سوى الخالق عز في علاه، لكنني أزعم أن هناك عددا من الطرق والسبل لفعل الخير والتصدق التي إن سلكها أحدنا لشعر بالسعادة الناتجة عن منح الصدقة ولتأكد بنفسه أنها أي الصدقات تذهب لمستحقيها لا لمن يطلبها على قارعة الطريق. وأزعم أيضاً أنه ينبغي لنا في ظل وجود الجمعيات الخيرية ودور الرعاية المنتشرة والأعداد الكبيرة للمحسنين في هذا البلد الخيّر أن لا نساعد أولئك المحتالين ممن تم استخدامهم من بعض المرتزقة للحصول على المال من خلال التسول والطلب بحجة المساعدة. إلى لقاء قادم إن كتب الله.