الحمدلله الذي لا يُحمد على مكروه سواه، القائل {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ}، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين، القائل: (إن العين لتدمع وإن القلب ليحزن..........)... وبعد:
فمن حق الرواد والمربين أن نذكرهم بالخير بعد قضائهم، وأن نعدد مناقبهم وآثارهم؛ لتتأسى بهم الأجيال القادمة من بعدهم، وإنه لمن غير المناسب أن نغمطهم هذا الحق.
وإذا كان المؤمن لا يعمل العمل ابتغاء أن يذكره الناس في حياته أو بعد مماته، فإن حُسن الذكر هو الجائزة المعجلة لمن يقومون بالحق ويقيمون الناس عليه، كما روى الإمام أحمد عن أبي ذر، قال: قلت يا رسول الله (الرجل يعمل العمل ويحمده الناس عليه ويثنون عليه به)، قال (تلك عاجل بشرى المؤمن).
وإني لأرجو أن يكون شيخي ووالدي وشقيقي الأكبر الشيخ فراج بن علي العقلا واحداً من الرجال الذي يحدثون بأعمالهم النافعة بإذن الله موجات من الحركة والتجديد والإبداع.
فلقد كان يرحمه الله أنموذجاً فريداً في ذلك، كان يعتنق المبادئ الكريمة، ثم يسير في الحياة على ضوئها، تلقاه عقبات جمّة، وتعترضه صعاب كثيرة، فما توهن من عزمه،وما تفتّ من عضده، وما تثنيه عن غرضه؛ فلقد كان عالي الهمة، صلب الإرادة، حكيمًا في معالجة الأمور، دقيقًا في الحُكْم على الأشياء والمسائل، متبصرًا بالمقدمات والنتائج.
لقد كان يرحمه الله خلال فترة عمله بهيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، التي امتدت لأكثر من ستة وأربعين عاماً ينظر إلى كل جديد نظرة تلطُّف وإيلاف، لا نظرة جمود واعتساف ما دام هذا الجديد لا يخالف نصاً من كتاب أو سُنّة، فإن خالفهما كان من أشد الناس نفوراً عن تأييده وأشدهم حرصًا على تخليص المجتمع من آثاره، وتحلى طوال فترة عمله بالحكمة واستخدام الحزم في مواضعه، والستر في القضايا التي تتطلب ذلك.
وأحسب أن ذلك لا يكون إلا لأصحاب العقول الراجحة، والمدارك الواسعة، والمواهب الرائعة.. وصدق الله إذ يقول {يُؤتِي الْحِكْمَةَ مَن يَشَاء وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا}
وإني لأقرر في غير تحرّج أنه كان يمدني بالتوجيه والنصح والأمل، ويقصي عني المخاوف والقلق والتردد، ويزودني بأهداف وغايات نبيلة، ويعينني على إيجاد واحة خصبة فيما أسعى إلى تحقيقه.
ولم أكن وحدي من بين أفراد الأسرة والأقارب والأصدقاء الذي يحظى برعايته، وكريم فضله وحُسن توجيهه؛ بل كان يدنى الجميع من مجلسه، ويخص كل شخص بما يناسبه، حتى لكأن الجميع يشعر أنه صاحب الحظوة لديه، وإنه الأقرب منه مجلساً والأكثر عنده وداً ونيْلاً.
لقد كان يرحمه الله حيث حلّ يترك وراءه أثراً حميداً، وما لقيه امرؤ في نفسه استعداد لقبول الخير الا وأفاد منه ما يزيده صلة بربه وشعوراً بانتمائه لوطنه وعشيرته، وسل عنه الجموع التي التقت به، أو التي أفاض عليها من إشراقاته، ما من أحد منهم إلا وفي حياته ومشاعره وأفكاره أثر من آثاره يرحمه الله، أثر يعتزُّ به ويغالى بقيمته.
وإذا كان من المألوف أن الإنسان بما أُوتي من مكانة يمكنه الاستحواذ على ألوف الرجال، وقد يملك ألسنتهم وقلوبهم أحيانا، لكنه عندما يفقد المنصب ربما لا يجد عيناً ترمقه باحترام، بل إنه قد لا يجد فؤاداً يخفق له بحب.
لكن الفقيد الراحل كان على النقيض من ذلك؛ كانت له على الناس دالة ومكانة، استحقها بفضائله؛ فلم يتنكر له أحد من وجهاء المجتمع بمختلف أطيافهم، أو زملائه أو مرؤوسيه بعد التقاعد؛ بل كان يلقى من جميعهم حفاوة هي حفاوة الإجلال لا الهيبة وتطامنا في النفوس عن إعزاز لا عن سطوة، وتعاملاً يسوده الحب لا الحقد، والشوق لا الوحشة والأنس لا الجفاء والقطيعة.
وإذا كان الوفاء خليقة يُمدح عليها الرجل؛ فقد كان الفقيد (يرحمه الله) مخلصاً لدينه، وفيّاً لوطنه، مقدراً لحقوق ولاة الأمر - حفظهم الله -، يعرف لولاة الأمر قدرهم، ومكانتهم، وإذا كان كل بلاء ينزل بالعبد فإنما هو بقدر الله، وإنما هو اختبار وتمحيص لإيمان العبد، فإنه وبقدر إيمانه يكون بره، وبقدر صبره يكون أجره، فإن شقيقي يرحمه الله قد ابتلاه الله بأمراض عدة في أوقات متفاوتة لأكثر من ثلاثين عاماً فصبر واحتسب، وإنا لندعو الله عز وجل أن ينال بصبره المنزلة العالية الواردة فيما رواه الإمام أحمد - رحمه الله - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال (إن العبد إذا سبقت له من الله منزلة، فلم يبلغها بعمل، ابتلاه في جسده، أو ماله أو في ولده، ثم صبر على ذلك حتى يبلغه المنزلة التي سبقت له من الله عزَّ وجلَّ)، وإنا لندعو الله عزّ وجلّ أن يكتب له في مرضه مثل ثواب عمله الصالح الذي كان يكتب له في صحته وعافيته؛ تحقيقاً لقوله صلى الله عليه وسلم فيما رواه البخاري من قوله عليه الصلاة والسلام: (إذا مرض العبد أو سافر كُتب له مثل ما كان يعمل مقيماً صحيحاً).
أسال الله سبحانه وتعالى أن يجعل سبيل الخير سبيلك، ودليل الرشد دليلك، وأن يوسع لك في قبرك، ويغفر لك يوم حشرك، فو الله لقد كنت في المحافل شهماً كريماً، وعلى الآل والأصحاب عطوفا، ولقد عشت حياتك حميداً مودوداً، ومت يوم مت سعيداً مفقوداً. وفي هذا المقام فإني لا يسعني إلا أن أتقدم بالأصالة عن نفسي وبالنيابة عن جميع أفراد أسرتي إلى مقام خادم الحرمين الشريفين وسمو ولي عهده الأمين وسمو النائب الثاني وجميع أفراد الأسرة المالكة الكريمة بوافر الشكر والتقدير والوفاء والعرفان على الرعاية الكريمة للفقيد الراحل سواء في حياته أو بعد مماته، وهي رعاية كريمة وصفة من صفات هذه القيادة التي لا تتنكر لأحد من أبنائها، بل تبسط على الجميع خيرها وعطاءها وحنوها وعطفها.
وأشكر كل من واسانا في مصابنا، شكر الله للجميع سعيهم وعزاءهم، وعظم الله أجرنا وأجرهم، وإنا لله وإنا إليه راجعون، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
مدير الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة