يقال في الموروث الاقتصادي إن إنجاز الفرد لا يقاس بعمره بل بإنجازه وتفوقه، أي أن الفرد لا يقال عنه عاش ثمانين عاماً أو مائة عام أو ما إلى ذلك بل يقال فلان فعل كذا وأنجز كذا وتميز بكذا، لهذا فإن معظم المبدعين والمتميزين في كافة الحقول الاقتصادية منها والاجتماعية والدينية والتاريخية وحتى على مستوى الاختراعات لم يربط التاريخ يوما بين إنجازاتهم وأعمارهم، فسواء عاش مائة عام أو ثلاثين المهم أن المعيار هنا هو الإنجاز والإنجاز فقط، لذا فإنه يخلّد اسم إنسان ما لأنه اخترع المخترع الفلاني ويخلّد اسم آخر لأنه برع في العلم الفقهي أو الاقتصادي أو الفني، وفي ذات السياق فإن عمر الإنسان يقاس بمدى فاعليته وأثره المتعدي عن نفسه إلى الشعوب والأمم، يذكر التاريخ لنا هنا أن هناك من العلماء الأفذاذ سواء في علم التاريخ أو الذرة أو الرياضيات أو حتى على المستوى الرياضي الذين ماتوا ما بين الأربعين والخمسين وقد تكون أعمارهم أدنى من ذلك لكنهم حفروا في ذاكرة التاريخ أسماءهم بماء من ذهب، دعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث وعشرون سنة وهي رسالة ستبقى إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، وهي رسالة رحمة ورأفة لبني البشر وهي رسالة إعجازية بلغت عنان السماء، والمسلمون الداخلون بهذا الدين زرافات وأفواجا، وهي رسالة بالعمر الزمني تعتبر من أعظم المعجزات التي مرت عبر العصور والأزمنة، وكذلك الصديق أبو بكر رضي الله عنه دامت خلافته سنتين وعدة أشهر وكانت الفتوحات والتحولات الإسلامية في عصره مضرب الأمثال ودهشة المؤرخين والفلاسفة، ويذكر المؤرخون هنا أن خلافة عمر بن عبد العزيز رحمه الله هي من الأزمنة التي يتوقف عندها الراصد والمؤرخ توقفاً يثير الدهشة ويسلب الألباب من عظمة إدارته للدولة وإرساء العدل وإنشاء الدواوين الذي من شأنه إقامة دولة اتسعت بها الفتوحات ونمت خلالها الميزانية نمواً لم يسبق له مثيل بسبب الانضباط الإداري والقضاء على الفساد بكافة أشكاله، وإذا جنحنا في الجوانب الأخرى فنرى أن الشاعر الجاهلي طرفة بن العبد والذي ملأ شعره الدنيا وشغل الناس في كافة أغراض الشعر وكان يُتنبأ له بشأن عظيم من النقاد والمفكرين إلا أنه قتل ولم يتجاوز الستة والعشرين ربيعا ومع هذا كان لحضور شعره الأثر البالغ على المكتبات العربية وحتى ترجمتها إلى لغات أجنبية أخرى، ولا ننسى شاعر العرب وشاغل الناس أحمد بن حسين الكوفي (المتنبي) الذي لم يعش أكثر من واحد وخمسين سنة وقد ملأ شعره أصقاع الدنيا إلى أن تقوم الساعة، ومن المحقق ذكره هنا أن الإنسان يمكنه عمل إنجاز أيا كان نوعه وشكله وأثره وليس بالضرورة أن يكون الإنجاز شاقاً ومضنياً حتى تتحقق فيه صفة الإبداع والنمو بل قد يكون يسيراً في ظاهره عظيماً في أثره (فهذه المرأة السوداء التي كانت تدخل على مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة المنورة ثم تنظفه بعد كل صلاة، ففقدها نبي الله محمد عليه الصلاة والسلام فسأل عنها فقال له صحابته رضوان الله عليهم إنها ماتت فصلينا عليها ودفناها فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ألا أخبرتموني لأصلي عليها فقالوا له: إنها ماتت بليل ولم نحب أن نوقظك يا رسول الله (تَقَالُّوها أي تقَالُوا قيمة ومكانة المرأة) فغضب رسول الله - بأبي هو وأمي وفداه نفسي- وذهب ليصلي عليها في المقبرة (أو كما جاء عنه في حديث هذه المرأة)، ونخلص من هذا الحديث بفوائد عظيمة وما يهمنا في هذا الصدد أن المرأة عملت بتنظيف مسجد رسول الله، وهو عمل قليل في ظاهره عظيم في أثره، لكنها هذا ما استطاعت القيام به فخلدها التاريخ وصلّى عليها رسول الله وذكرها الذاكرون إلى يوم القيامة هذا إنجاز من نوع آخر، ويذكر التاريخ أن الإمام الشافعي صاحب أحد أهم المذاهب الأربعة توفي وهو ابن الرابعة والخمسين ربيعا، ولقد حلق مذهبه في أصقاع الدنيا وأطرافها، وفي ذات السياق فإنه حتى على مستوى الأمم والشعوب فإن الأمم لا تقاس حضارتها وإنجازاتها بالمدد والسنين بل بما قدمته تلك الأمة للتاريخ وللبشرية من إرث حضاري واجتماعي وعلمي يقوم على دفع الأمم وتقدمها من خلال تلك المرتكزات.
Kmkfax2197005@hotmail.com