هناك الكثير من المشاهدات التي لفتت انتباهي أثناء دراستي في بلدان غربية وأوحت لي بوجود ازدواجية المعايير، والتناقض في الممارسات على مستوى الحكومات وكذلك الأفراد. ولا أنكر وجود شيء من هذا القبيل عندنا، مع الإقرار كذلك بما لهم من مزايا لا تخفى على الجميع.
وللمثال على ممارسة هذه الازدواجية من قِبل الحكومات، فإنك ستشاهد على الرصيف تلك الفتاة التي أخرجتها الفاقة لتمنحك نفسها وتفعل بها ما تشاء مقابل مبلغ لا يفي حتى بقيمة وجبة واحدة. مع التذكير للإنصاف بأنّ هذا مخالف للقانون لدى العديد من هذه البلدان. والتناقض هنا أنّ هذا الأمر يجري في وقت كانوا فيه يؤوون مئات الألوف من اللاجئين، وفي مقدمتهم العراقيون، ويدفعون لهم تكاليف السكن في بيوت مؤثثة ويزودونهم بنفقاتهم الشخصية وتكاليف الدراسة. والمقصد من هذا اتضح فيما بعد حيث كان جزءاً من خطة استمرت لسنين حتى آتت ثمارها في الإطاحة بصدام ونظام البعث. ومن المؤكد أنّ استقطاب جميع القوى المعارضة لديهم هو في عمومه مندرج تحت هذا المفهوم.
أما التناقضات التي تمارس من قبيل الأفراد فهي كثيرة جداً. غير أنّ من أكثرها رسوخاً في الذاكرة، لخصوصيته بنا كمسلمين، هو المنظر الشائع عندهم لتلك البنت المسلمة، عربية وغير عربية، وقد تحجبت وغطت شعر الرأس بشكل قريب مما ينبغي، غير أنها في تناقض فاضح ترتدي بنطلون الجينز الضيق الذي يفضح أكثر مما يستر. هذا في نظري نتاج طبيعي للازدواجية التي يمارسها عموم القوم هناك ولا يرون فيها عيباً، ومن قبيل أنّ لأي فرد الحق في عمل ما يشاء مادام مقتنعاً بصواب موقفه. هذا المشهد على أي حال هو ما تبادر إلى ذهني وأخذت منه عنوان مقالي عندما رأيت موقف الدول الغربية أثناء التصويت في مجلس حقوق الإنسان بجنيف على (تقرير غولدستون بشأن جرائم الحرب الصهيونية في غزة).
فهذه الدول التي طالما تشدّقت بحقوق الإنسان، واتخذتها ذريعة للتدخل هنا وهناك، رأيناها تتفق في موقفها المشين بكل صفاقة لتعارض لهذا التقرير. هذا مع اختلافها بالطبع في صيغة وشكل إعلان المعارضة بقدر يتناسب مع مدى الجرأة في الوقاحة ومدى المزايدة السابقة على هذه الحقوق. فهذه أمريكا ومعها بعض دول أوروبا مثل إيطاليا وهولندا قد رأيناها تمعن في إعلان رفضه متجاهلة حقوقنا وكأننا لسنا من بني الإنسان. بينما نرى البعض منها كبريطانيا وبلجيكا والنرويج وقد لاذت بالصمت المخزي الذي لا ينم إلاّ عن فقدان الجرأة على قول الحق مع الاقتناع به. ومن العجيب أن نرى البعض من هذه الدول وعلى رأسها فرنسا قد بلغ بها الضعف غايته، فتتخلف عن حضور الموقف برمته وتلوذ بالفرار وتتغيب عمداً عن التصويت.
إنّ هذه الدول التي تذرّعت دائماً بحقوق الإنسان وعبأت الجيوش وبعثتها لآلاف الأميال، رأيناها بالأمس وهي تسقط بقوة وتتخلّى عن حقوق الإنسان الفلسطيني العربي المسلم الأعزل، لكي ترضي طغمة الكيان الصهيوني الظالم. لقد افتقدت حكومات هذه الدول إلى أبسط مقومات الكياسة والأدب والذكاء السياسي، لهوان أمرنا بالطبع، فتخلّت جميعاً حتى عن قول كلمة الحق ولو من قبيل الدعم المعنوي الذي نعرف أنه بات مستكثراً علينا أن يتحقق. هذا بالطبع مع يقيني بأنه حتى وإن تحقق أي دعم فإنه من المستحيل أن يتجاوز إلى أي شكل من أشكال الدعم المادي الملموس لهذا الشعب المظلوم.
إنّ من عرف هذه الدول من خلال استيطانها أو الدراسة فيها أو حتى الاطلاع والتمعن في تاريخها ونضال شعوبها، فلا شك أنه قد رأى فيها ما ينال إعجابه بها وربما تبلغ به الحماسة لها أن يضرب بها الأمثال في كثير من نواحي الحياة. ولا أنفي عن نفسي أن شيئاً من هذا قد عشته، بل ولا أزال أرى لهم الكثير من المزايا التي هي من عوامل تقدمهم وتحكمهم بأحداث العالم. وهذا ما يصيبني - ومعي لاشك الكثير - بالحيرة أحياناً والإحباط أحياناً أخرى، لتعاملهم بمثل هذه الازدواجية. بل قد يصل الأمر إلى الخجل من النفس، عندما أتذكر الحماسة لهم في بعض المواقف أو المناداة بما لديهم.
فبالتأكيد لسنا نجهل أنّ أمريكا كانت هي الرائدة في تبنّي ودعم (حق تقرير المصير) للشعوب وذلك منذ الإعلان الشهير 1917 من قِبل الرئيس الأمريكي وودرو ويلسون وأنّ لها دورها الذي لا ينكر في هذا المجال. كما أننا لا ننكر دورها في (الإعلان العالمي لحقوق الإنسان) الذي اعتمد في 1948 وكان لها موقفها القوي في تفعيله. وهذا لا ينفي أبداً أنها كانت ذات نزعة براجماتية لا تلام أحياناً عليها من أجل تحقيق مصالحها ضد القوى الإمبريالية وتفردها بمقدرات وثروات أراضي وشعوب حرمت منها أمريكا، فكان لا بد من تبنّي مثل هذه المبادئ لتحطيم امتيازات تلك القوى. غير أنّ ما يعنينا في النهاية هي النتائج التي نالتها الشعوب المغلوبة.
كما أنه لا يغيب عن الجميع أن فرنسا هي بلد الثورة التي نادت فيها عام 1789 بمبادئ (الحرية والإخاء والمساواة) تلك الثورة التي أثرت فرنسا من خلالها في كثير من شعوب الأرض، وتحديداً في أوروبا، بتأثيرات هي في مجملها إيجابية، وغيّرت بها خريطة العالم السياسية آنذاك. ومثلها بطبيعة الحال بريطانيا التي عرفت الثورات على الاستبداد الكنسي والملكي قبل فرنسا، فأرست أسس الديمقراطية الليبرالية الحديثة حتى وصفت بأنها أعرق صروح الديموقراطية في العالم. غير أنّ شغف الإنجليز في استخدام الثورة لتصدير التأثير الثقافي أو الاجتماعي إلى الآخرين، كان بنظري، أقل من الفرنسيين، واهتموا أولاً بتحقيق المكاسب التجارية والسياسية والعسكرية.
وعلى أي حال فإنّ سياسة الدولتين تكاد تكون واحدة حين التعامل بنقيض ما نادوا به من حرية وعدالة عندما اصطدمت هذه المبادئ بالنزعات التوسعية والإمبريالية لهما على حساب حقوق الأمم والشعوب التي خضعت لهما أو شملت بنظام الوصاية تحت نفوذهما. ويتكرس السوء بشكل أعمق إلى درجة المأساة فيما يتعلق بالبلدان العربية والإسلامية وفي مقدمتها فلسطين التي تعتبر معاناتها صنيعة بريطانية بالمقام الأول، وباتفاق وتآمر من قِبل أقطاب المجتمع الدولي، ولا زال الحال كما هو.
ومن المنطقي بعد هذا أن نسأل حكومات تلك الدول وبمرارة عن سبب انعدام حمرة الخجل لديها، وخصوصاً عندما نقف بحيرة بين هذه التناقضات التي نحياها حين نستلهم ما سبق ذكره عن إسهامات هذه الدول فيما يتعلق بحقوق الإنسان، وبين واقعها المخجل فيما يتعلق بقضايانا وحقوقنا المنتهكة.
إنّ الإنسان ليعجب من سياسات هذه الدول حينما تتمحك بحقوق الإنسان للتدخل في بلداننا إلى الحد الذي تُحتل فيه دول ويُشنق فيه رؤساء ويُطالب بتسليم آخرين، في الوقت الذي نرى وقوفها بصلف أو بالصمت السلبي ضد من يطالب حتى بمجرّد الإدانة لجرائم الحرب التي اقترفها الصهاينة قديماً وحديثاً، والتي نعلم يقيناً أنها لن تعدو أن تكون حبراً على ورق.
لقد بدأ يترسّخ لدينا اليقين بأنّ هذه المنظمات الدولية التي يفترض أن تكون ملاذاً للحماية وصيانة للحقوق، ليست إلاّ غطاء للعدوان علينا وتأديب المتمردين على القانون الدولي في حال كونهم عرباً أو مسلمين. وهي بكل حال حتى لو لم تتخذ كغطاء لمثل هذه التصرفات، فإنها عاجزة عن الوقوف في وجه القوى العظمى في حال قررت الخروج على الشرعية الدولية والتمرد على قواعد القانون الدولي حتى الإنساني منها. والسوابق على هذا عديدة، والواقع يشهد برهن سياسات ومواقف حكومات دول عظمى برغبات طغمة ظالمة في دولة الكيان الصهيوني.
إنّ جميع الدلائل تشير بجلاء إلى أنّ الأمل مفقود دولياً في مراعاة رغبة العرب في حل سلمي منصف للقضية الفلسطينية. وعلى حكومات العرب أن تعيد بلورة موقفها من جديد وعلى أساس تعدد الخيارات نحو نيل الحق العربي ونصرة أهالي فلسطين وتحرير الأقصى الشريف. وبنظري أنّ القادة في (دمشق - الرياض - عمان - القاهرة) هم بكل تأكيد معنيون أمامنا أكثر من غيرهم في انتهاج سياسة مغايرة تعيد الحراك من جديد إلى المياه الراكدة. وبنظري أنّ اتفاق هذه العواصم الأربع على أمر ما، جدير بأن يحترم من بقية العرب والمسلمين وسيكونون أعواناً لهم على تبنّيه.
(*) أستاذ القانون الدولي ورئيس مركز الدراسات والبحوث - كلية الملك خالد العسكرية.
mzmzbraidan@gmail.com