تتقاطر أفواج الحجاج، هذه الأيام على الديار المقدسة، مسارعين لأداء الركن الخامس من أركان الإسلام، لاجئين إلى ربٍّ كريم، طامعين في الأجر والقبول، وعسى أن يكون حجهم مبروراً.
إذْ لاشك أنّ كل مسلم جاء من بلاده البعيدة، متحمِّلاً المشاق، ومستهيناً بالمتاعب، بعد أن تيسرتْ له فرصة وسعي مشكور، ويفوز بتجارة لن تبور.
وحتى نعين هذا الأخ الكريم، في الظفر بمقصوده، في رحلته التعبدية التي كان في شوق إليها مثل غيره من إخواننا المسلمين في كل مكان، تقبل الله منهم، وأعادهم لأوطانهم سالمين غانمين.
فإنه أولاً لابد أن تكون نفقته، طاهرة خالية من المداخل السيئة، التي تفسد عليه حجّه، لأن الله سبحانه طيّب لا يقبل من الأعمال إلا ما كان طيباً، حيث أخبر صلى الله عليه وسلم، عن الرجل الأشعث الأغبر، الذي جاء من دياره ظاناً نفسه بالاستجابة، ويريد الحج، باتجاهه للديار المقدسة، يردّد في دعائه: لبيك اللهم لبيك، لبيك وسعديك، ليدعو بما جاء، ليجاب: لا لبيك ولا سعديك، لكن ما السبب؟
مع أن السفر مظنّة إجابة الدعوة، والشعثة والغبرة دليل على عناء السفر، ورفع اليدين إلى السماء في الدعاء هاجس في القبول، إلا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول عن حال هذا المسافر: (فأنّى يستجاب له، ومطعمه حرام، ومشربه حرام وملبسه حرام وغذّي بالحرام).
وحتى لا تكون أخي الحاج من هذا النوع، فاحْرص على أن تكون مهيئاً نفسك، ونفقتك لسفرك وحجك حتى تكون من العائدين بعد قضاء المناسك، ولتكون في رحلتك منذ مغادرة نفسك منزلها، متهيئاً بالحلال في كلّ متطلباتك، لأنّ هذا من أسباب القبول في الحج والدعاء، ومؤدياً ما عليك من ديون، لأن الله عندما فَرَضَ الحج على عباده، كما في سورة آل عمران، قيّد ذلك بالاستطاعة، والاستطاعة بالمال أو البدن وغير ذلك.
ولما كان خير الهدي، هدي محمد صلى الله عليه وسلم، الذي أخبر بأن شر الأمور محدثاتها، وكل محدثة في دين الله بدعة، وكل بدعة ضلالة.
فإنه لا يخفى على كل ذي عَقْلٍ، أن الله لا يقبل من الأعمال والأقوال، إلا ما وافق الكتاب والسنة: اللذان هما مصدر التشريع في دين الله الحق، الإسلام، وترسم طريقتهما، لأن حكمة الله البالغة اقتضت أن إنزال الكتاب، وبعثة الرسول الكريم، ما كانتا إلا لهداية الثقلين: الإنس والجن، وإخراجهم من ظلمات الجهل والانحراف، إلى نور التوحيد الخالص، والعلم الصحيح النافع، الذي يقود صاحبه إلى شاطئ السلامة، وبر الإيمان، وينقذه من الانحراف عن جادّة الصواب، إلى نور التوحيد الذي عليه مدار الأعمال وسلامتها.
ويمنعه من التعلق بغير الله، في ظل الحاجات وكشف الكربات، فإنّ هذه الأمور لا تطلب إلا من الله سبحانه، ولا يشاركه في هذا: قبر أو حجر أو غير ذلك من المخلوقات. وهذا ما يجعل ذلك العبد في المكان اللائق به، عندما يربط أعماله كلها بالله: دعاء ورجاء، وخوفاً واستعاذة ومدداً، ليكون حجه مبروراً، وعمله مقبولا، ولا يجب أن يفرط في هذه المكانة التي يريدها الله له، كرامة منه سبحانه وإحساناً منه جل وعلا، يقول سبحانه: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً} (سورة الإسراء: 70) ومخلوق هذا شأنه، وهذه مكانته، جدير به وقد عزم على الحج من بلاد بعيدة، راغباً فيما عند الله بالحج المبرور، فعَارٌ عليه أن يجعل من السفاسف، والتعلق بغير الله، وترك الاقتداء بصاحب الرسالة العظمى، هدفاً ومحطاً لآماله وتطلعاته، بل يجب أنْ يكون فوق ذلك، حتى يُقبل عمله، ويكون حجه مبروراً وذلك بأن يكون عبداً لله مستجيباً لأمره سبحانه، صادقاً في عبادته، مترسِّما في جميع أعماله ونسكه خُطى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفْقَ قوله الكريم: (خذوا عني مناسككم) بالقدوة والعمل، وسؤال أهل العلم عما يشكل عليه، وهذا من مبررات قبول العمل، والعودة من الحج كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (كيوم ولدته أمه).
يقول جل وعلا: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} (سورة الأحزاب: 21).
ويقول سبحانه: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا} (سورة الحشر:7) ويقول سبحانه عن أهمية اتباع ما أمر به رسول الله صلى الله عليه: {قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} (سورة آل عمران: 31).
ويقول صلى الله عليه وسلم: (من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو ردّ) (رواه ابن ماجة في سننه ج1ص6).
1 - وحتى يكون الحج مبروراً: فإنه لابد من الاقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم في أعمال الحج والعمرة، حتى يحظى الحاج بالقبول، ويرجع بالمغفرة، ولا يخالف أركان الحج وواجباته، التي أخذت من سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم وهديه في حجته، وأقواله، وهي التي حرص هذا على أخذها من سنة رسول الله القولية والفعلية والتقريرية.
وذلك بعد أن منّ الله ووفقه، بالإتيان إلى الديار المقدسة، من بلاده البعيدة، متحملاً وعثاء السفر، وما يتعلّق بالسفر من تبعات، ما الله بها عليم، سواء في الطريق، أو زحام الأماكن في المشاعر وعند الكعبة المشرفة، سفراً وزحاماً، قد يضيق عليهم أنفاسهم، ويقلق راحتهم، ولا يخفّف هذه الوعثاء إلا الصبر والقدرة على التحمل بصدور رحبة، ونفوس مطمئنة.. كل ذلك من أجل ابتغاء مرضاة الله، والفوز بالقبول، والمثوبة من العلي القدير، الذي يضاهي في يوم عرفة ملائكة بهذه الجموع ويغتاظ عدو الله إبليس مما يرى من الرحمات التي ينزلها الله على عباده في ذلك اليوم فيحثو التراب على رأسه حسداً وغماً، وأخبر الله عن الحجاج أنه لن يبلغوه إلا بشق الأنفس.
فاحرص يا أخي أن تكون ممن شملهم الله برحمته في ذلك اليوم بحسن الاتباع، وتجنب المحظورات، وحفظ اللسان إلا عن ذكر الله والدعاء وتلاوة القرآن الكريم، والله سبحانه لا يضيع عمل عامل، ولا يخيب سعي عبدٍ موحدٍ، سأله في يوم عرفه، وانطرح بين يديه، تائباً من الذنوب، وسائلاً المغفرة، ألم يقل جل وعلا: {أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ} (سورة النمل: 62) لا أحد غيره سبحانه.
2 - غير أنّ الأعمال كما مرّ يجب أن تكون على دليل واضح من كتاب الله، أو سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ومن جهل شيئاً فعليه سؤال العلماء الذين نشرتهم الحكومة السعودية في كل مكان: عن المواقيت، وفي الحرمين الشريفين، وفي جميع المشاعر والمواقف، وعند الجمرات، وغيرها من الأماكن التي يمر بها الحاج والمعتمر، كل هذا تيسيراً على الحجاج.
ذلك أن الحكومة مع الإعمار والتوسعات، جندت العلماء لإجابة الحجاج على تساؤلاتهم، والإدلاء ليرشدوهم إلى المقاصد، ورجال الأمن للمحافظة على سلامتهم، ونظمت المجازر حتى يسهل عليهم شراء وذبح هديهم، وغير هذا من أمور عديدة تريح الحجاج والمعتمرين، عن البحث والسؤال، لضمان سلامة عبادتهم، وتفرغهم لها.
ولم تدخر وسعاً حتى يؤدوا مناسكهم - أعزها الله- فيما يعود على المسلمين بالخير، ويعينهم في حجهم بالنفع الواضح، سواء كان ذلك في أمور دينهم، أو دنياهم حتى يعودوا لديارهم فائزين غانمين، وهذا من مقاصد الحج.
3 - وإن من المناسب التنويه عن أمور، يفعلها الحجاج في الحرم الشريف، اعتقاداً منهم أنها مما تقربهم إلى الله زلفى، ومن الواجب والاستحسان التنبيه عليها في هذا الحديث مثل:
أولاً : ما يتعلق بالحجر الأسود: فمن المعلوم أن الحجر يقبله من يطوف بالبيت العتيق، إذا تيسر ذلك وليس بواجب سواء كان الطواف نافلة أم كان ركناً، وتقبيله كما قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: لا يضرّ ولا ينفع لأنه لو لم يَرَ رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقبّله ما قبله عمر.
وفي حالة عدم استطاعة تقبيله للزحام وكثرة الناس، يشير الطائف إليه بيده عند محاذاته، ويقول: بسم الله والله وأكبر، ومعنى هذا أنّه لا يجوز لغير الطائف بالبيت تقبيله، ولا الإشارة إليه بالتكبير، كما يفعله بعض العوام الذي يكون أحدهم جالساً في الصف، لانتظار الصلاة، فإذا خفّ التزاحم على الحجر، قام مسرعاً وقبله ثم رجع إلى مكانه، ورسول الله صلى الله عليه وسلم، في جميع أعمال الحج، يحث على السكينة والوقار (عباد الله السكينة السكينة).
وقد يفعل ذلك في كل صلاة، وفعله هذا لاشك فيه أنه بدعة، وفيه مضايقة للآخرين وسوء أدب، كذلك بعض الجنود، يكون أحدهم في نوبته ممسكاً بالستارة من الكسوة، فإذا أقيمت الصلاة ونزل من مكانه لكي يصلي، فإنه يمسك الحجر بطرف ثوبه ثم يقبله.
وفعله هذا غير مشروع، ولا دليل عليه، وهو اجتهاد في غير محلّه، أقرب ما يقال فيه أنه بدعة.
- وتسابق الناس على الحجر، بمجرد أن يسلم الإمام قبل الذكر، وقد يسبقون الإمام في السلام، وتقاتلهم في هذه الحالة على الحجر الأسود، من الأمور المنكرة، التي يجب أن تغير، وأنْ يمنع أولئك الجهلة من فعلهم هذا، لأن أقل ما فيه، أنّه يلهي الناس عن الذكر الشرعي، ويربك صفوف المصلين مما يستوجب المنع، وتغيير ما يعمله الجهلة، حتى لا يتصوره الوافد الجديد على بيت الله نوعاً مهماً من العبادات، مع أنه من أعمال الجهّال، وليس من العبادات.
على أن ينبه على هؤلاء إتمام صلاتهم وذكرهم بكل خشوع وسكينة، لأن هذا من لوازم الصلاة وقد حثّ الله عليها في آيات متعددة من كتابه الكريم حتى إن بعضهم جعل الخشوع والسكينة في الصلاة ركناً من أركانها أما تقبيل الحجر الأسود، فهو مجرد استحباب لمن يطوف فقط، إذا تيسر.
ثانياً: تقبيل بعض الطائفين للركن اليماني، وهو لا يقبل وإنما يستلم مساً، إذا تيسر وإن استلمه من يطوف إذا لم يكن فيه مشقّة أو ازدحام، فلا يمسحه بكلتا يديه، ولا يرصهما عليه، كأنه يحاول سلخه وإنما يمسحه بيده اليمنى، إذا لم يكن فيه مزاحمة للناس، ولا إضرار بهم، فعمل ذلك دون مغالاة ولا يمسح بيده التي استلمت الركن بها وجهه، وبقية أعضاء جسده، كما يفعل بعض العوام لأنه لا دليل على ذلك ولم يفعله الرسول ولا الصحابة، كما أنه لم يرد عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما نعلم، الإشارة عليه بالتكبير، وإن كان قد ذكره بعض الفقهاء اجتهاداً.
(للحديث صلة)
استدراك:
قرأت في عدد الأربعاء من الجزيرة 9 ذو القعدة، اعتراض أخ كريم على أن خصالاً ذكرتها في مقال سابق لي عن الذكاء وسرعة البديهة والحلم والأناة بأنها هبة من الله سبحانه، حيث قال: حسبت نفسي مجبراً، ليبين للقارئ، أن هذه الخصال باستطاعة الإنسان أن يكتسبها بالعلوم والكتب التي ذكر، وكأني بهذا الأخ الكريم قد غابت آيات كريمات في كتاب الله منها الآية 78 سورة النحل، 36 سورة الإسراء، 78 سورة المؤمنون، التي جاءت: بجعل وأنشأ، لأنه سبحانه هو مسبب الأسباب، ولا يمكن التمرّن بدون الأساس، الذي أنشأه الله في الإنسان هبة منه، ولو قال: من وجد عنده الاستعداد، يزيدها ويوسع مجالها التمرين والفرص المتاحة لكان أولى.
وأخلفه في عدم إثبات قدرة الله، وتقديم الكتب التي ذكرها والرياضة في هذا الاكتساب، لأنه لو كان مدرساً أو أباً لا يستطيع تمرين من حوله كلهم على هذه الخصال ليكونوا كلهم أذكياء، لأن جعل الناس متفاوتين فمثلاً لا يستطيع أن يجني من أي شجرة ثمرة جيدة ما لم يكن أساس البذرة جيداً، وإن من قوة الإيمان تسليم الأمر لله لأنه الخالق، ولا تقيس قدرة الله بالماديات المحسوسة عندنا.
معذرة كنت أنوي الإطالة والشرح أكثر لكن لم يسمح المجال وشكراً.