عندما أكتب عن الغزل عند الأندلسيين سيتبادر إلى ذهن القارئ الكريم شيء من قصص وشعر ابن زيدون مع ولادة لشهرتهما ولكثرة ما كتب حولهما. غير أن هذه العجالة ستغض الطرف عن أقواله وأفعاله، لتنقلنا إلى الحديث عن سيد أندلسي وسيدة أندلسية هما أبو جعفر بن سعيد، وحفصة الركونية، وكلاهما شاعران وكان بينهما حب نقلا بعض صوره في أشعارهما.
|
وقد أرسل أبو جعفر إلى حفصة أبياتا من الشعر يرجوها لقاءه والاستمتاع بقربها منه، ولكنها ماطلته فأرسل إليها شعرا دون ذكر اسمها قائلاً:
|
يا من أجانب ذكر اسمه |
وحبي علامه |
ما إن أرى الوعد يقضي |
والعمر أخشى انصرامه |
أنوح شوقا ووجدا |
إذ تستريح الحمامه |
إن لم تنيلي أريحي |
فاليأس يثني زمامه |
دفعني عجز البيت الأخير، وكلنا يحب الأعجاز، أن اليأس دواء من التعلق بالأمل والنساء والمال والمراتب، ومباهج الحياة وآمالها، فالأمل يدفع إلى العمل والمحاولة مع ما فيه من مواجع الحياة، غير أن اليأس مع كونه يبطئ في السير، إلا أنه يضفي على المسيرة الراحة والطمأنينة والاستمتاع بما يتوفر من مباهج الحياة، دون السعي الحثيث نحو المزيد من مباهجها فيكون العناء بديلا للبهجة المأمولة، وربما تكون القناعة هي ذلك البلسم الذي يتحقق معه الرضا دون العناء، ويزول معه اليأس دون كسل أو بأس فبالقناعة تكون السعادة.
|
نعود إلى أبي جعفر مع حفصة، وهو يمزج وصف الطبيعة، وضمها لهما مع ما يجد في قلبه من وجد قادم من نجد فيتخيل ما يكون بين محبين حيث يقول:
|
رعى الله ليلا لم يرع بمذمم |
رعانا ووارانا بجوز مؤمل |
وقد نفحت من نحو نجد أريجه |
إذا نفحت هبت بريح القرنفل |
وغرد قمري على الدوح وانثنى |
قضيب من الريحان من فوق جدول |
يرى الروض مسرورا بما قد بدا له |
عناق وضم وارتشاق مقبل |
ويقول محمد صبحي أبو حسين إن الأندلسيين أحبوا المرأة البيضاء المترفة، الحمراء الخد، الطويلة القد، المشمومة، الخيزرانة، ذات العجز الجليل والخصر النحيل، والجيد الأتلع، والقامة الرشيقة المستقيمة والشعر المسترسل، والثغر النقي الأقحواني، والنشر الطيب، واللمياء الشفة، المفلجة الأسنان، الحوراء، النرجسية العيون، الكاعب، الناعمة الملمس، البضة الجسد.
|
يبدو أن ما ذكر محمد صبحي صحيح في مجمله ما عدا العجز الجليل، فالأغلب عند شعرائهم وأدبائهم أنهم ليسوا به مغرمين مثل المشارقة الذين هاموا به هياما لا يعادله هيام. حتى وإن قال ابن عبادة الأنصاري الأندلسي:
|
ورأيت خصرك يشتكي ما أشتكي |
فضممته ضم النحيل نحيلا |
أو قول أبي القاسم الأشبيلي:
|
غلامية ليس في جسمها |
مكان دقيق سوى خصرها |
|
أقبلت تهتز كالغصن |
وتمشي كالحمامة |
ظبية تحسد عينيها |
وخديها الملامة |
بعد هذا كله، وبعدها عاشوا رغدا من العيش تساقطت مدن الأندلس واحدة تلو الأخرى، لأنهم انصرفوا عن العمل الى اللهو، ولو جمعوا الاثنين لكان أجدى، ولو فارقوا اللهو وتمسكوا بالعمل، لكان أحق وأوفق وأجدر بأن يتبع.وحتى عند سقوط مدنهم أو فراقهم لها، ما زالت نفوسهم متعلقة بالكواعب، فها هو أمير مدينة بلنسية في عهد المرابطين مروان بن عبدالملك بن عبدالعزيز يفارق مدينته مرغما ويقول:
|
كأن بلنسية كاعب |
وملبسها سندس أخضر |
إذا جئتها سترت نفسها |
بأكمامها فهي لا تظهر |
وبعد سقوط مدينة طليطلة قال أحد الشعراء متألما وعينه تبكي على ما آلت إليه قاصرات الطرف من النساء:
|
طليطلة أباح الكفر فيها |
حماها إن ذا نبأ كبير |
أديلت قاصرات الطرف كانت |
مصونات مساكنها القصور |
هذا بعد السقوط، أما ذلك الترنح قبل السقوط وما كانت تعيشه تلك المدن فأبلغ وصف وأشهره وأجمله تلك القصيدة الرائعة لابن شهيد يصف فيها قرطبة بكونها عجوزا زانية نخراء، تزني بالرجال يبدو أنه يومئ إلى ما آلت إليه من تتابع للولاة وللوزراء الذين لم يحسنوا إليها وإنما كانت همومهم لا تتجاوز مصالحهم:
|
|
عجوز لعمر الصبا زانية |
لها في الحشا صورة الغاشيه |
زنت بالرجال على سنها |
فيا حبذا هي من زانيه |
ترديت من حزن عيشي بها |
غراما فيا طول أحزانيه |
نكتفي بهذا الشعر الجميل في مدينة أنجبت الشعراء والأدباء من أمثال ابن زيدون وابن شهيد، ذهبت مع ما ذهب من مدن أندلسية، لنستمتع بما ورثوه لنا من تراث، فهل نعمل لنورث للأجيال تراثا يستحق النقل؟ لست أدري.
|
|