Al Jazirah NewsPaper Thursday  05/11/2009 G Issue 13552
الخميس 17 ذو القعدة 1430   العدد  13552
(سميرة خاشقجي)..بوصفها رائدة للرواية النسائية السعودية
خالد بن أحمد الرفاعي

 

يرفض عدد من نقادنا إطلاق وصف الريادة على الروائية السعودية المعروفة (سميرة خاشقجي)، بحجة أنّ للريادة شرطاً موضوعياً لا يتوفر في رواياتها، فهي -كما يرون- تكتب من مجتمع آخر إلى مجتمع آخر، ولم تكن في أي من رواياتها معبرة عن المجتمع السعودي رؤيويا ولا أسلوبياً، ولم تتحرف إلى توظيفه بأي شكل من الأشكال.

وهذه المقولة -وإن كان لها ما يسوِّغها فنياً- تفتقر إلى الرؤية الشمولية للظاهرة الأدبية -أقولها تجوزاً- التي تبدأ من الصفر ثم تمرُّ بعدد من المنعرجات التأسيسية لتأخذ طريقها من بعد إلى الازدهار أو الذوبان، لذلك سأقدم في هذه المقالة مسوغات قولي بريادة (سميرة خاشقجي) للرواية النسائية المحلية، وهي ريادة تتجاوز الأدبي إلى النسوي بشكل عام، راجيا أن تكون منطلقا لمناقشة علمية مثرية...

أولاً: في حديثنا عن الريادة يجب أن يعي المتلقي أنّ الريادة ليست مصطلحاً (مدحياً) نرفع به ذاتاً ونضع بضديده أخرى - كما يفعل كثير من المنتسبين إلى الساحة النقدية -، وإنما هو مصطلح علمي نستعمله للدلالة على عمل معين، اتسم بسمات معيّنة، وعليه فإنّ النقاش لا يجوز أن يكون في إطلاق المصطلح من عدمه، وإنما في السمات التي ألحقت بهذا المصطلح، أو تأسس عليها؛ لأنّ نقاشاً مثل هذا من شأنه أنْ يحرِّر المصطلح دالاً ومدلولاً، وأنْ يضبطه تمهيداً لضبط ممارساته اللاحقة.

إن محاولة تحرير مصطلح الريادة ستبدأ بنا من الجِذر اللغوي (رَوَدَ)، الذي يعني - فيما يعني- السبقَ الزمنيَّ، بحيث يكون كلُّ سابقٍ غيرَه في شيء رائداً له، نقرأ في (لسان العرب): (وأصل الرائد الذي يتقدّم القوم يبصر لهم الكلأ ومساقط الغيث)، فهو إذن رائدٌ؛ لأنه تقدّم قومه، ليس في المعنى، ولكن في الزمن، وذلك لغاية هي التبصير والدلالة.

وفي المعجم نفسه نقرأ: (الرائد لا يكذب أهله يُضرب مثلاً للذي لا يكذب إذا حدّث).

ونعطي من خلال هذا المقتطف قيمة أخرى للريادة، هي القيمة المعنوية، فالرائد لا يكذب أهله؛ لأنه لو فعلها لم يكن رائداً، وتتجلى هنا مكانة الرائد السامية، فهو بمكان المسموع المطاع، حتى لو أنه (لم يصدقهم فقد غرّر بهم)، وأبلغهم مواطن الهلاك، وإذن فنحن نتحصّل من خلال معجم واحد على قيمتين ل(الريادة): إحداهما: السبق الزمني، والأخرى: القيمة المعنوية لهذا السبق، والتي تتجلى -كما أسلفنا- في التبصير والدلالة الجزئيتين، وترقى من بعد إلى حيث الدلالة العامة (ولا يلزم من هاتين القيمتين الاجتماع لتشكيل (الريادة)، فقد يكون الرائد رائداً وقد تكون الرائدة رائدة بالأولى دون الثانية، أو بالعكس، لكنّهما إذا اجتمعتا أكّدتا الريادة وأعطتاها فضاء واسعاً لتحقيق ذاتها).

ولو بحثنا في استعمالاتهما لوجدنا لمصطلح (الريادة) حضوراً طاغياً في الممارسات التنظيرية والتطبيقية، النقدية الأدبية وغير الأدبية، وأغلب هاتيك الممارسات تدلُّ به -أي بالمصطلح - على السبق الزمني، فكلُّ سابق إلى فنّ في إقليم هو رائد له دون التفات إلى مستوى ما قدّمه فنياً أو حتى موضوعياً كما يرصد (سحمي الهاجري)، وهنا نجد أنفسنا أمام دوائر ريادية متداخلة ينفتح بعضها على بعض، فلكلِّ فنٍّ اتجاهات، ولكلِّ اتجاه موضوعات، وفي رحم الموضوع الواحد تتشكّل عشرات الرؤى، ومن هنا يمكن أن نجعل لكلِّ جزء من هذه الأجزاء رائداً أو رائدة، خاصة في ظلِّ إنشائيتنا النقدية.

وفي مستوى آخر يستخدم بعضهم مصطلح (الريادة) ويطلقه على فعل التحويل، فكلُّ من قام بفعل تحويلي أو تغييري/ حداثي، فهو رائد من الروّاد، ويكثر استخدام هذا المصطلح بهذا المدلول في الدراسات الفكرية المجرّدة.

مما سبق يتضح أن للريادة قيمة لا تبدو إلا من خلال سياق تاريخي، فهي لا تتعلق بالخطاب -من حيث هو إنتاج لفظي، ونتيجة ملموسة-، ولا تتعلق بالنص - من حيث هو تراكمية نسقية تؤطرها العقلية النقدية -، وما دامت كذلك فإن ربطها بشرط موضوعي ما هو إلا إلزام بما لا يلزم، وتكلف أمر لا يفضي بنا إلى شيء.

ومما نسجله في سياق تحرير مصطلح الريادة أن وضع شرط موضوعي لها، يشي بخلط الواضع بين (الريادة) و(التأسيس)، فهما مصطلحان يجريهما عدد من النقاد مجرى واحداً، وكأنهما من قبيل تعدد الدال وتوحد المدلول، وهذا الخلط نقطة مهمة يبدو أنها المشكِّل الرئيس لاعتراض بعض نقادنا الفاعلين، وفكّ هذا الخلط يمكن أن يتمَّ من خلال التركيز على نقاط ثلاث، هي:

1- أنّ هناك فرقاً دقيقاً بين (الريادة) و(التأسيس)، على مستوى الدلالة المعجمية، ولا بدّ أن يكون لهذا الفرق انعكاس عليهما حين ينقلان من الدلالة المعجمية إلى الدلالة الاصطلاحية، خاصة إذا استثمرنا هنا ما نقله (الشريف الجرجاني) في تعريفات المصطلح من أنه (إخراج اللفظ من معنى لغوي إلى آخر لمناسبة بينهما).

2- أنّ مصطلح (الريادة) يستعمل للدلالة على من سبق إلى فنٍّ سبقاً زمنياً، وكان لسبقه قيمة معنوية تماثل التبصير والدلالة التي يحقِّقهما الرائد في الدلالة المعجمية، وهنا نتقاطع نسبياً مع من ينظرون إلى الريادة نظرة فكرية جوهرية.

3- أنّ مصطلح (التأسيس) -الذي يدل به بعضهم على مدلول الريادة- يستعمل -علمياً- للدلالة على من حقّق الأولية في بناء حدود الفنّ، ورفع قواعده وجدرانه، وبعبارة أخرى من أسّس لفنية الفنّ، وصنع له أنموذجاً يحتذى، انطلاقاً من أنّ التأسيس في اللغة بمعنى الابتداء والأصل، وهو ذو غاية حسية -لا معنوية كما وجدنا في الريادة-، نأخذ هذا من قول ابن منظور في اللسان: (وأسست داراً إذا بنيت حدودها، ورفعت من قواعدها، وهذا تأسيس حسن).

ولعل هذا الفرق الدقيق هو ما دفع بعض الباحثين إلى إقامة دراساتهم التاريخية على ثلاث مراحل: الريادة، والتأسيس، والانطلاق، كما نجد عند (الهويمل) في (مدخل لدراسة الإبداع القصصي والروائي والمسرحي في المملكة).

ثانياً: إذا اتفقنا على أن الريادة في وجهها الأول سبق زمني ينتج تبصيراً ودلالة متعلقين بالمسبوق إليه، فإن (سميرة خاشقجي) ستكون رائدة الرواية النسائية السعودية بامتياز، هذا إن لم تكن رائدة لها باستمرار، وتعليل ذلك أنها سبقت النساء السعوديات إلى كتابة رواية، فما توصلت في رصدي إلى رواية نسائية سعودية صدرت قبل عام 1958م - العام الذي صدرت فيه روايتها (ودعت آمالي)-.

وأما قيمة التبصير والدلالة التالية لسبق (سميرة) الزمني، فنجدها واضحة من خلال تتبّع بطاقة (سميرة) التعريفية، حيث ستبدو لنا امرأة فوق العادة، لم تكتفِ بالكتابة من عند غيرنا إلى غيرنا، وإنما مارست عملية تحويل المرأة من حالة عدم الكتابة إلى حالة الكتابة، وهنا يمكن أن نشير إلى مجلتها (الشرقية)، وهي أول مجلة نسائية سعودية، صدر عددها الأول في يناير من عام 1974م، وكان شعارها آنذاك (مجلة نسائية سعودية)، ثم تم تغييره عام 1978م إلى (مجلة المرأة العربية) (انظر: الجزيرة، ع10293)، وما من شك في أن هذا التغيير يتضمّن ما يثري قولنا باتساع الريادة لدى (سميرة)، وتجاوزها المحلي والخليجي إلى العربي، ويمكن أن نشير كذلك إلى إنشائها (جمعية النهضة النسائية)، و(نادي فتيات الجزيرة الثقافي)، وإلى انتخابها عام 1965م - بحسب مجلة (حقول) - لرئاسة (الاتحاد النسائي العربي السعودي)، وهذا يَعْبُرُ بنا إلى ارتباطها بعدد من الرائدات في دول خليجية وعربية، وعلاقتها بعدد كبير من الإعلاميين والناشرين والمثقفين، هذا بالإضافة إلى كتابتها عدداً من المقالات حول المرأة السعودية، وتأليفها كتاباً خاصاً بها (يقظة الفتاة العربية السعودية)، يعدُّ رائداً مثلما هي رائدة.

وفي سياق إثراء هذه النقطة نودُّ الإشارة إلى اللقب الذي كتبت تحته (سميرة) رواياتها، بوصفه مثرياً لرؤيتنا، فقد كانت تكتب رواياتها تحت لقب هو (سميرة بنت الجزيرة العربية)، يتعامل معه كثيرون على أنه اسم مستعار تخفي من ورائه ذاتها، والصحيح أنه لقب، تتغيا (سميرة) من ورائه الكشف عن الجانب الأكثر أهمية في ذاتها، (وهو انتماؤها إلى الجزيرة العربية)، حيث لم يكن مما يستوعبه أحد آنذاك أنْ تقومَ فتاة من هذه الجزيرة بفعل الكتابة، والكتابة المتأسسة على التخييل تحديداً، لا سيما وصدور روايتها الأولى سبق صدور القرار الرسمي بتعليم الفتاة السعودية تعليماً نظامياً.

يدل على ما سبق أنَّ (سميرة) لم تستغن عن هذا اللقب حتى بعد أن عرف اسمها إعلامياً، وحتى بعد أن قدّم إحدى رواياتها الأمير نواف بن عبد العزيز (وهو تقديمٌ فيه ما يفيدنا هنا لولا رغبتنا في الإيجاز)، فقد ظلت (سميرة) محتفظة بهذا اللقب حتى مع ذكر اسمها كاملاً: (سميرة محمد خاشقجي بنت الجزيرة العربية)، وهو ما يدلنا على أنها وضعت هذا اللقب بقصد الانتشار، لا بقصد الاستتار - كما يردِّد كثيرون-.

ما تفعله (سميرة) هو نفسه التبصير والدلالة الذي يقف إلى جوار سبقها الزمني ليشكلا معاً (ريادتها)، وهو ما يواكبه ضمناً خطابها الروائي إذا ما نظرنا إليه من خلال مجموع إنتاجها الروائي، ففي رواياتها كلها نجدها تهتمُّ اهتماماً كبيراً بتقديم صورة المرأة المتعلمة، وفي رواياتها كلها تبدو المرأة حريصة على تطوير ذاتها، وعلى المساهمة بشكل أو بآخر في تنمية مجتمعها، أو المجتمع الصغير الذي يحيط بها...، ولقد وظفت (سميرة) في سبيل تجذير هذه الصورة االسردَ، والوصف، والحوار، هذه بالإضافة إلى النمط التقريري الذي بنت به شخصيات رواياتها.

وإذا كانت أفعال رواياتها كلها تتحرك داخل أمكنة خارج المملكة -ليس على الإطلاق- فإنّ روايتها الأخيرة (قطرات من الدموع) كانت تجري أحداثها (في القصة) على أمكنة داخلية (الخرج/ الرياض/ جدة/ مكة...)، وكانت تلامس عدداً من القضايا المتعلقة بالمرأة السعودية، مع المفاهيم القبلية، ثم مع المجتمع الذي هو امتداد للقبيلة أيضاً، ولذلك فهذه الرواية هي الوحيدة التي تأسست على الاتجاه الواقعي من بين رواياتها، ولعل في اختتامها مشوارها الروائي بالواقعية، وبالمكانية المحلية، ما يثري الرؤية التي نسجِّلها هنا.

هذه المراكز المهمة والتي لمسناها مركزاً مركزاً من خلال (السبق الزمني)، و(مشاريع الروائية المواكبة)، وملامح الخطاب، تعطي شعوراً بأن (سميرة) كانت تمارس التبصير والدلالة ضمناً من خلال رواياتها، وبشكل مباشر من خلال مجلتها، وأعمالها، وأنشطتها المتعددة، وما من شك في أن حضورها كان يتخلله وصف الروائية، وهو وصف لا بد وأن له تأثيرا ما على روائيات سعوديات، وخليجيات، وربما عربيات أيضاً...، الأمر الذي يجعلها رائدة فاعلة، لا على المستوى المحلي فحسب، ولكن على مستويات أكبر، من الصعب الإحاطة بها بعد نصف قرن وأكثر.



Alrafai16@hotmail.com

 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد