لعل إشكاليّة (القصّة القصيرة جدًّا) - وكذا (قصيدة النثر) - تتمثّل عمومًا، إنْ على صعيد النوع أو المصطلح، في غياب المرجعيّة التنظيريّة التراثيّة العربيّة - على ما ضاع من التراث - فإذا بعض الأشكال التي تحاكي نماذج من آداب أخرى (غربيّة بصفة غالبة) تبدو جديدة على من لا يعرف قديمه(1). على الرغم من أن تلك الآداب الأخرى تُعدّ ناشئة نسبيًّا، الرواية نفسها فيها متأخّرة المولد، قياسًا إلى تراث (ألف ليلة وليلة)، و(حيّ بن يقظان)، و(التوابع والزوابع)، و(رسالة الغفران)، وغيرها من أنماط الكتابات والمخاطبات والرسائل السرديّة. كأنّ استيراد التقنية قد خلّق في الموازاة ثقافة استيراد للأفكار والأشكال الفنّيّة، لا تنفصل عن الحسّ الحضاريّ بأن الوافد مخترعٌ حديث بالضرورة، كسائر المخترعات التي تُستورد، فيُؤخذ ببنياته وتسمياته معًا، وإنْ لم يكن في معظمه إلاّ (بضاعتنا رُدّت إلينا)، بعد تغيير التسميات. هنالك يكمن لُبّ القضيّة في معظم الجدل الدائر بساحاتنا الثقافيّة والنقديّة حول بعض ما تُزعم جدّته من الأنواع الأدبيّة، وتُدّعى الريادات الحديثة فيه، ويطول الجدل. ومن ثمّ تُعرض بعض تلك الكتابات - التي منها الجميل ومنها دون ذلك- في غير قليل من تهويل المنجز، والتعصّب باسم جديد مقابل عتيق، علاوة على تسمية الأشياء بغير أسمائها.
وإنّ القِصّة القصيرة جِدًّا (تحديدًا) تَقِفُنا على جملةٍ من الإشكاليّات والتساؤلات، منها:
1 - ما الذي يتبقّى من القِصّة في القِصّة القصيرة جِدًّا؟ من حيث إن القِصّة ما سُمّيت بهذا الاسم أصلاً إلاّ لأنها طويلة نسبيًّا، مبنًى ومعنًى، لا لَقْطَة، أو مجرد فكرة، كما في القِصّة القصيرة جِدًّا. ومصطلح (قِصّة( ظلّ يحمل هذه الدلالة في مختلف اللغات.
2 - تفتقد نصوص القِصّة القصيرة جِدًّا عادة المبنى الجماليّ، بسبب الضمور الذي تأخذ نفسها به، والتقبّض الذي يعتور بناءها، مع خواء المعنى في بعض الحالات. ولذا، فإن مقولة النفّري المشهورة، والمجترّة كثيرًا في المقاربات الحديثة: (كلما اتسعتْ الرؤية ضاقت العبارة( قد لا تنطبق على بعض أنماط القِصّة القصيرة جِدًّا، حين يبدو المعنى ضيّقًا والعبارة ضيّقة كذلك. علمًا بأن مقولة النفّري إنّما تعني أنّ سعة الرؤية تجعل العبارة أضيق من اتساع تلك الرؤية، مهما بلغ اتساع العبارة. وليس معناها بالضرورة ضيق العبارة، كما يحلو لبعضٍ تأويلها حين يتّخذها شعارًا لهذا الضرب من الكتابة، ناهيك عن تكلّف تضييق العبارة بدعوى اتساع الرؤية.
3 - إذا كان المحدثون قد عابوا على الشعراء القدامى تقييد الشِّعر بضوابط من الأوزان والقوافي، فما بالهم قد يقيّدون النثر بأغلال أشدّ، ويسجنون التعبير في أقفاص حديديّة أضيق: قصيدة نثر، أو قصّة قصيرة جدًّا؟
4 - هل الإيجاز مطلب بلاغيّ لذاته؟ كلاّ، فالإيجاز ليس بغاية، بل هو وسيلة. وعليه، فإن للإيجاز مقامه وللإطناب مقامه. أمّا حين يُفرض الإيجاز على النصّ فرضًا، فثمّة يدخل العمل حيّز التكلّف والتصنّع. لذا يمكن القول: إنّ القِصّة القصيرة جِدًّا هي فنّ لزوم ما لا يلزم من القيود في النثر، بحيث توشك أحيانًا أن تخنق المعنى قسرًا، مع سبق الإصرار والترصّد! إنها كَفَنِّ التوقيعات قديمًا، على طرافة بعضها، تبقَى قيدًا على عفوية الإفضاء.
5 - إشكاليّة هذا الضرب من الكتابة في المحصّلة - وهو يمثّل التحدّي لكاتبيه أمام قارئيه - أنه قد لا يُمتع القارئ ولا يفيده؛ لأنه لا يؤلّف قِصّة، ولا يكتمل قصيدة، وقد لا يؤدّي بينهما إلى تخلّق جنسٍ ثالث، على غرار (القصيدة - الرواية (2)، مثلاً، إلاّ إنْ هو جاء من قبيل ما أطلقنا عليه في مستهلّ هذه المعالجة (قَصِيْصَة - قصيدة - قصّة)، حيث يبدو النصّ: قصيدةَ نثرٍ في قِصّة قصيرة جِدًّا، أو قِصّة قصيرة جِدًّا في قصيدة نثر.
وعودة إلى مجموعة سهام العبودي الأخيرة (ظِلّ الفراغ)، فقد جاءت في جملتها بديعة، ومعبّرة، وشاعريّة، وناجية من معظم تلك المزالق المشار إليها. واللافت أن الكاتبة كانت على حذرٍ في تسمية مجموعتها، فلم تجزم بأنها (قصص قصيرة جدًّا)، بل دعتها: (نصوصًا قصصيّة قصيرة جدًّا). ودلالة (نصّ قصصيّ( غير دلالة (قِصّة).
وقد حملت تلك المجموعة بعض ما لا يمكن أن يصنّف في (ق.ق.ج). وإن لم يَعدم جماليّته الخاصّة، وإيحاءه، ولكن في نطاق نوعٍ آخر، كالخاطرة.. أو الشذرة الشعوريّة، ونحوهما، كهذا المثال:
قذف كيدُهم الحالك باسمه إلى القائمة السوداء.. فابيضَّت..!
ويحسن التوقّف هنا لدى الفرق بين ثلاثة ضروب من النصوص، يقع بينها الخلط لدى كثير من كتّابنا وكاتباتنا، هي:
الخاطرة.
القصة القصيرة جدًّا.
قصيدة النثر.
فالقصّة القصيرة جدًّا يجب أن تحمل بذار القِصّة، وإنْ جاءت لقطةً، أو مشهدًا مكثّفً ا في فقرة. فإن فقدتْ ذلك أصبحت إمّا: خاطرة نثريّة، أو شبيهة بقصيدة نثر، إنْ حملتْ شِعريّة وطارت بجناحٍ من خيال. بل هناك نوع ثالث يُلحظ خلطه بهذه الأنواع لدى بعض الكتّاب، وهو ما يشبه عنوان الخبر الصحفيّ المثير. وأعتقد أن هذا المستوى لا يحتمل أن يخاطب القارئ بدلالةٍ تسمو على مستواه المحدود إلى مستوى أدبيّ، ولا يمكن بحالٍ الزعم أنها تمكن تسميته: (قِصّة)، من أي نوعٍ أو حجم.
وبالجملة فإن أغلب النصوص التي لا تتجاوز سطرًا واحدًا تظلّ فقيرة، إلاّ نادرًا، في بضاعتها القصصيّة، هذا إن وُجدتْ ملامح من القصصيّة فيها، ومن التكلّف حشرها تحت تسمية (القِصّة القصيرة جدًّا).
ومن أجواء مجموعة العبودي - التي استدعت هذه المناقشة حول القِصّة القصيرة جدًّا - هذه النصوص الموحية:
1 - أنشوطة
حين التحمت حلقة الطريق الدائري السريع، اختنقت المدينة..!
2 - رؤية
كان الطفل منهمكًا في الرسم حين تنبَّه إلى نفاد اللون الأحمر منه، لم يتمكّن من رسم بقع الدم على ثياب آخر شهيدَين من مجموعة الشهداء الذين كانوا موضوع لوحته.
كان الطفل الذي يزور معرض (تكريم الشهداء) ينظر إلى اللوحة ويسأل أُمَّه: لماذا ينام هذان الرجلان إلى جوار كلِّ هؤلاء الشهداء؟!
3 - ضاع في الترجمة..!
في ملتقى النضال السنوي، صفَّق الحاضرون كثيرًا للسيِّدة التي ارتدت قميصًا بصورة (جيفارا).
كانت المرأة مأخوذة، ارتفعت بها سحابة الزهو، وصدَّقت الأشياء الكثيرة التي قيلت فيها، وتصوَّرت: كيف أنَّها كانت ستُحرم من هذا كلِّه، لو أنَّ البائع المتحمِّس في محلِّ الخردوات استوعب أنَّ: (تشي.. تشي( لم تكن شيئًا سوى عطستها الغريبة..!.........................
تهنئة للكاتبة سهام العبودي على: (ضوئها الذي لا يَستدقّ)، و(ظِلّها الفارع)!
1) ويزداد دَهَش الجيل الناشئ لما يعوزه من تأسيس مكين في العربيّة وآدابها، إنْ لم يكن مُعْرِضًا عن التراث العربيّ إعراضًا أو مصروفًا عنه. ولقد يُسنده من النقّاد أمثاله، أو مَن لهم مواقف خاصّة مِن عِلم من علوم العربيّة، أو فنٍّ من فنونها، فيظهر خطاب نقديّ يُلبس طلاء النقد العلميّ ما ليس بنقدٍ ولا بعلم.
2) للباحث دراسة حول (القصيدة - الرواية)، نشر فصولاً منها في سلسلة مقالات بصحيفة (الجزيرة)، بدءًا من (العدد 10969، الخميس 4 شعبان 1423ه= 10 أكتوبر 2002م)، رابط الإنترنت: http: - www.suhuf.net.sa - 2002jaz - oct - 10 - cu10.htm. كما شارك ببحث بعنوان (القصيدة - الرواية: تداخل الأجناس في بلاغيات النصّ المعاصر ((الحزام( لأبي دهمان: نموذجًا))، في المؤتمر الدولي الرابع للنقد الأدبي- البلاغة والدراسات البلاغية، القاهرة 1 - 5 نوفمبر 2006. وآخَر بعنوان (الغيمة الكتابية: (قراءة في تماهي الشعريّ بالسرديّ))، قُدّم في مؤتمر النقد الأدبيّ الثاني عشر، حول (تداخل الأنواع الأدبيّة)، جامعة اليرموك، كلية الآداب، قسم اللغة العربية، الأردن، 22 - 24 -
7 - 2008.
http: - alfaify.cjb.net
aalfaify@yahoo.com