اختارت غادة السمان الرواية كفن تعبيري لأن الروائي يخلق بكل حرية وبدون نموذج. فالرواية التجريبية هي رواية الحرية التي تؤسس قوانينها الذاتية وتتبنى قانون التجاوز المستمر، لأنه مخرج الرواية العربية من ترهلها في زمن انهيار الثوابت، ولذلك تخون كل سلطة خارج النص وخارج التجربة الذاتية. إن رفض سلطة النموذج ينبثق من الوعي بضرورة إعادة النظر في علاقة العمل الروائي بمرجعيته الواقعية، لأن الواقعية بأشكالها الأنثوية اليوم هي واقعية مأزومة.
ولأن الكتابة لا يمكنها إلا أن تبتكر مخاطباً ما، وأن توجَّه إلى آخر ما، فإن رواية الحداثة شهدت درجة غير عادية من التركيز على الأقرب من النفس تتجه إليه وتناجيه، وكأن الآخر الوحيد القادر على احتلال الخواء هو إما الجسد/الذات أو المرأة/ المأثور الشعبي أو المرأة/ الكتابة (كما في الرواية المستحيلة). يشدنا إلى عالم (الرواية المستحيلة) تداخل الأشكال والرؤى والأساليب وتتسلل إلينا فكرة الحداثة بما هي نقيض للسكون والتسليم وتجسيد للتحول المستمر، وبحث مُلِح عن (نموذج أعلى) في الكتابة لا يتحقق في حيز زماني أو مكاني محدود، بل يبقى كائناً ورقياً سردياً يصعقنا بتلبُساته وحيواته المضمرة والباطنة. وغادة السمان في الرواية المستحيلة تفتتح بالموت المتلبس حيث يقول ماجد الخيّال: لقد قتلتها. قتلتها بكل حب.
وكانت تعرف أنني سأقتلها ذات يوم وكان قتلي لها عقابها لي) وها أنا أعترف: كل ما قلته لها قبل زواجنا عن التضامن مع المرأة وحريتها كان دجلاً. فالحريم هن الحريم، وموتهن أفضل من العار. وكانت هند موصومة بعار مضاعف: أولاً لأنها أنجبت بنتاً لا ولداً، وثانياً لأنها كانت كاتبة، وستراً لعار الكتابة (كانت تكتب باسم مستعار كمن يعتذر عن إثم).
وكان أمجد الخيّال يعتبر هندً من أملاكه الخاصة، ويتمنى أن يغطيها بحجاب ويزرعها في خيمة تحيط بها صحراء لا ترى فيها سواه.
لذا كان يعتبر أن دراسته لدكتوراه القانون في باريس قشرة للتباهي فهو لم يشجع هند يوماً على اقتراف التوقيع باسمها، لأنه كان محكوماً عليها أن تعيش قوانين البيت الأمي الكبير، حيث لم يكن بوسع أوراقها الخاصة ومذكراتها أن تكون في مأمن لأن كل شيء في البيت الكبير مشاع، ولا مكان فيه للخصوصيات، أو للهويات الأنثوية. فزين ابنة هند الوحيدة وبعد وفاة أمها لم يعد لها اسم تُعرفُ به لذا راح والدها يسأل: كيف يمكن لطفلة بعدة أسماء أن تنام؟ أمها المرحومة تناديها زنوبيا وأنا أناديها زين وجدتها تناديها زينب، وهي ترد على النداءات كلها). إنها الهوية الملتبسة بين الذكورة والأنوثة، ولطالما التبست هوية الأنثى أو أسمها، فلا ضير لأن وجودها طارئ، واسمها اسم طارئ يتبدل بتبدل المنادين وأحلامهم، فهذا يشاء لها أن تكون زين العابدين، وتلك تشاء أن تكون زينب. ولما كانت زين تتعلم في البعثة العلمانية الفرنسية، فقد كان أبوها يثور في وجه هند قائلاً: هل يعجبك أن تجهل ابنتك وهي تكاد أن تبلغ الخامسة من عمرها كيف تنطق الحاء والشين؟ قبل تعليمها الإنكليزية والفرنسية علميها بعض الآيات القرآنية ليستقيم نطقها) فالقرآن عنده لتعلم اللغة وليس لمعرفة الحق وتجنب الباطل. وتذكر أمجد مثلاً شعبياً فقال: من غاية المجد والمكرمات بقاء البنين وموت البنات.
ولما ماتت هند سألت زين فيحاء: ما معنى حرة؟ أجابت فيحاء ضاحكة: حرة يعني صبي.
وعرفت زين أن الحرية مرتبطة بالذكورة لا بالأنوثة لذا صارت زين تخاف من غضب والدها الذي لا تشعر منذ صغرها أنه ينظر بعين الرضا إلى علاقتها السرية مع الكتابة ولا يريدها كاتبة، كما كانت أمها كاتبة استثنائية.
وسرعان ما صارت الكتابة كابوس زين إذ إنها كلما تقدمت في السن كلما خافت من الكتابة والنشر معاً حتى وقعت أخيراً على أوراق أمها الراحلة ودفترها الكبير الذي كتبت عليه بخط واضح - المرأة الجديدة - رواية.
كوم من الأوراق كان رماد أمها، وعلى زين أن لا تكرر التجربة كي لا تحل عليها اللعنة، وقد ضايق زين أن أمها كانت تكتب بقلم الرصاص.
وزين لا تحب قلم الرصاص لأنه قابل للمحو، كما ضايقها أن أمها كانت مرغمة على أن تظل أديبة شفهية، لذلك قررت زين أن تعيد سيرتها باسمها الحقيقي وصورتها أيضاً، واحتفظت برواية أمها هند وأرادت أن تشارك بها في مسابقة الرواية، ولو كانت متأخرة عقدا ونيفاً من الزمنً، وعندما عقدت زين العزم على أن تعيد سيرة أمها، قرر لؤي ودريد ابنا عمها أن يضعا حداً لها، خصوصاً وأنها تمشي في درب توسخ سمعة الأسرة كيف ينشرون اسمها في بريد القراء بجريدة النقاد وصورتها وقصة قصيرة بقلمها كلها هيام وغرام؟ لا نعرف إلى أين تقود هذه الدرب التي بدأت زين تمشيها، ونخشى على اسم الأسرة من التلطخ بالوحل.. فإن صورة زين في الجريدة إلى جانب اسمها يشبه الإعلانات عن راقصات كباريه السريانا.
غير أن زين التي كانت تحلم أن تصير كاتبة كأمها أصيبت بطلقة نارية وأدهشها أنها لم تشعر بأي ألم، لأن الطلقة أصبحت حافزها للكتابة بضمير المتكلم دون الخوف من اقتراف ذلك الإثم. في (الرواية المستحيلة) عرضت الأديبة غادة السمان لأزمة المرأة/الكتابة ونخلص من هذه القصة إلى الدعوة من أجل صياغة هوية شاملة وديناميكية، وذلك بدراسة اللامعقول والمحذور لأننا من خلاله نعالج الجزء اللاواعي من تراثنا الذي تتولد منه مخاوفنا الراهنة.
ولو عاد رواد عصر النهضة وبعثوا من القرن التاسع عشر ليسألوا: هل اختلف العرب في عصر الحداثة وما بعدها، عما كانوا عليه في جاهليتهم؟ ومن المسؤول عن تحديث يبقى معلقاً: أهي الأنظمة؟ أم النخبة؟ أم الجماهير؟ أم الغرب؟ لقلنا: إنها الأمية، ولا غرابة في أن يظل ذلك هو وضع العرب الآن، وربما لقرن مقبل، لأنهم أضاعوا قرناً كاملاً في البحث عن طريق التحديث والاستنارة العقلية والتنوير الفكري.
ومن تكرار القول إنه إذا لم يتحرر الوطن العربي من أمية أبنائه الفكرية في صورتها المذهلة حتى اليوم! فإن فكرة التنوير ستظل أبعد ما تكون عن التحقق، كما أن الخروج من دوائر الظلام الراهن سيكون من الأمور المشكوك فيها حتى لو امتلأت مدننا وقرانا بالجامعات وبالمطابع والمكتبات، لأن الاستنارة العقلية والتجرد من التعصب يسبقان كل الخطوات الرامية إلى التغيير.