Al Jazirah NewsPaper Thursday  05/11/2009 G Issue 13552
الخميس 17 ذو القعدة 1430   العدد  13552
(القدس).. عاصمة الثقافة العربية (لعام 2009م): الفرح والمأساة.. 1-2
عبدالله مناع

 

في ربيع عام 1975م أوصلتني حماستي الصحفية الشابة إلى (الأردن).. لإجراء حوار مباشر مع الملك حسين بن طلال - يرحمه الله - في قصره بالعاصمة الأردنية (عمان).. بناءً على ترتيب مسبق جرى مع المراسم الملكية الأردنية عبر سفارتهم في جدة في تلك الأيام، فقد كان الملك آنذاك قطباً مركزياً في الصراع العربي الإسرائيلي.. بمكانته وعلاقاته الدولية وطول مواجهته الحدودية مع إسرائيل التي تبلغ ثمانمائة كيلاً.. رغم أنه لم يشارك في حرب العاشر من رمضان - السادس من أكتوبر من عام 1973م، التي قادها الرئيسان (أنور السادات وحافظ الأسد).. لتحرير الأراضي المحتلة في سيناء والجولان، إلا أن جرحه.. كان مايزال نازفاً حتى تلك اللحظة من الغوغائية العسكرية الإسرائيلية التي استغلت فرصة الرد على ما أسمته بالتهديدات السورية لها وإغلاق مضائق تيران بخليج العقبة في وجه ملاحتها.. لتستولي على الضفة الغربية وفي قلبها القدس العربية والتي تسمى الآن بالقدس الشرقية دون أن تخسر جندياً واحداً، فقد كان الأردن وملكه.. أبعد ما يكونون عن التفكير في استغلال إسرائيل لخلافاتها مع مصر وسوريا لتشن عليها حرباً من طرف واحد تستولى بها على الضفة الغربية والقدس اللتان كانتا آنذاك تحت إدارة ملك الأردن.

في صبيحة اليوم التالي.. من استضافتي بفندق (إنتركونتننتال عمان).. كنت ألح على مرافقي لمعرفة موعد حواري مع جلالته..؟ فطمأنني بأنه سيكون قريباً، خلال أيام قلائل.. يمكنني أن أشغل وقتي أثناءها ب(التعرف) على الأردن وحياته ومدنه والتي لم يسبق لي زيارتها كالبتراء والزوراء وصفد، فرحبت مقدراً ظروف الملك وارتباطاته وما قد يجد عليه من مواعيد أهم من موعدي. على أنني في أحد تلك الليالي همست لمرافقي: أيمكنني أن أزور (القدس).. ولو لساعات؟

فأجابني بشيء من التردد.. بأنه يمكنني ولكن عبر إجراءات قد تطول، أو أن أذهب مباشرة إلى جسر الملك عبدالله.. أو (جسر اللمبي) حيث نقطة العبور إلى الضفة الغربية التي يسيطر عليها جنود إسرائيليون يسمحون أو يمنعون من يشاؤون..؟

اخترت مغامرة الذهاب إلى (جسر اللمبي) على أمل أن يُسمح لي بالمرور إلى (القدس) التي لا تبعد عن الجسر بأكثر من ثلاثين إلى أربعين كيلاً.. بعد أن زيَّن لي الأمر سائقي المرافق الذي وضعته في خدمتي مشكورة إدارة المراسم الأردنية أو وزارة الإعلام الأردنية.. والذي أصبح صديقاً لي من طول المعايشة اليومية معه لأربعة أو خمسة أيام، لنصل في ذلك الصباح الربيعي إلى منطقة الجسر بعد خمسين إلى ستين كيلاً من السير الحثيث.. وليهبط سائقنا الكريم طلباً للإذن بعبور الجسر بينما ترجلت من العربة لأنظر تفاصيل المكان من حولي، فأدهشني أمران.. أولهما: ذلك اللون الأرجواني العجيب والجميل الذي كانت تصطبغ به الأرض، وثانيهما: ذلك الأريج العطر الذي كان يفوح من المكان، ويملأ الأفق.. حتى ليحسبه من يستنشقه وكأنه قادم من جنة عدن. في هذه اللحظة عاد سائقنا وصديقنا الكريم يسألني: جواز سفري.. حتى يتم الختم عليه من قبل السلطات الإسرائيلية ويسمح لي بعبور الجسر، فلم أوافق.. حتى لا أمنح ذلك الجندي الإسرائيلي المجهول برد سعادة الامتلاك بالاحتلال. فالقدس الشرقية عربية وليست إسرائيلية.. حتى ولو احتلتها إسرائيل، أو اجترحت ضمها إلى الأبد بقرار المائة والعشرين عضواً من أعضاء برلمانها.. لعشر أو العشرين سنة. لقد كان الطلب الإسرائيلي.. موجعاً، وكان ردي العربي.. حزيناً دامعاً مكسوراً، وعدنا إلى (عمان).. رغم الغصة التي كان يشعر بها سائقنا النبيل طوال طريق العودة لضياع فرصة رؤيتي ل(القدس) وقد حشد كل طاقاته وعلاقاته العملية مع أولئك الجنود.. لتحقيقها، ثم جاء لقاء الملك.. والحوار الجميل والطويل معه والذي امتد لأكثر من ساعتين غادرت بعدها عمان عائداً إلى جدة.

* * *

ومرت الأعوام.. والعقود، وانتقلت السلطة إلى منظمة التحرير الفلسطينية لتدير الضفة والقطاع (سياسياً) من مهجرها الكريم في بيروت، فمجهرها النبيل في تونس.. لتبدأ الانتفاضة الفلسطينية الأولى.. فيأتي مؤتمر مدريد الكسيح.. ثم تنتشي الآمال بعد التوقيع على اتفاقية (أوسلو) النرويجية بمراحلها الثلاث، والتي فتحت الأبواب لعودة الحكومة المهاجرة إلى أريحا وغزة فرام الله وبقية مدن الضفة الغربية.. ليجري انتخاب عرفات كأول رئيس للدولة الفلسطينية.. من قبل الفلسطينيين في المدن والأرياف الفلسطينية قاطبة وفي مقدمتها (القدس الشرقية)، التي عاد إليها فيصل الحسيني ليشرف على ملفها.. ويعيد فتح أبواب بيتها العتيد: (بيت الشرق).. ليلعب دوره الحضاري والثقافي والإشعاعي وهو يستقبل عشرات العشرات من مثقفي العالم ورواده وأساتذته وساسته المنصفين. لقد بدا آنذاك وقد أخذ عقد الدولة في الاكتمال بالانتخابات التشريعية وقيام أول مجلس تشريعي وطني.. بأن آمال الفلسطينيين (أرضاً وشعباً وحكومة) قد أخذت في البزوغ بعد ليل العذاب الطويل الذي لم تشهد شعوب الأرض قاطبة مثله، والذي امتد بهم لنصف قرن من عام 1948م إلى عام 1998م.. وأن حلم عرفات في القدس الشرقية عاصمة للدولة (شاء من شاء وأبى من أبى)، كما كان يردد.. حتى مات حصاراً وغدراً.. قد أصبح على بُعد خطوات من سعي الفلسطينيين إن لم يكن قد بات بين أيديهم.

لكن مع انطلاق الرصاص إلى ظهر (رابين).. من يد الشاب الصهيوني المخدوع بقولة (شعب الله المختار) التواراتية المختلقة قديماً، ومقولة المسرحي والروائي البريطاني إسرائيل زانجويل (إن فلسطين.. أرض بلا شعب، وأن اليهود شعب بلا أرض) المبتكرة حديثاً.. كان (رابين) يسقط مضرجاً بدمائه، وكانت مرحلة مشروع أوسلو الثالثة والنهائية.. تسقط معه ليتشرذم كل شيء من بعد.. إلى أن جاء المجرمون والقتلة، والجهلة من همل الناس إلى سدة الحكم في كل من (تل أبيب) و(واشنطن).. وجرى ما علمتموه وشاهدتموه وتعذبتم به قهراً وكمداً خلال الثمان سنوات الماضية، ليخبرني القنصل الفلسطيني الدكتور عماد شعث في إحدى المناسبات الثقافية فرحاً متهللاً.. وبما يشبه المفاجأة بأنه تم اختيار (القدس) عاصمة للثقافة العربية لعام 2009م، فتبادر إلى ذهني بأن منظمة (اليونسكو).. أرادت بهذا الاختيار أن تعبر (ثقافياً) عن موقفها من القدس العربية المحتلة بعد أن حيل بينها وبين التعبير عنه (سياسياً) في عشرات المناسبات السابقة.. نظراً للتكتل الدائم والظالم الذي تقوده الولايات المتحدة الأمريكية في المجلس التنفيذي للمنظمة للحيلولة بينه وبين صدور أي قرار يمس إسرائيل رغم الجرائم والبشاعات التي ترتكبها صباح مساء في (القدس)، لكنني سرعان ما علمت.. بأن ترشيح (القدس) لأن تكون عاصمة للثقافة هي ومثيلاتها من العواصم العربية الأخرى كالقاهرة وبيروت وتونس والبقية.. إنما جاء عن طريق (المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم)، وأنه في أفضل الأحوال والاعتبارات.. تم ب(النيابة) عن منظمة اليونسكو الأممية - بعد المؤتمر العالمي للسياسات الثقافية الذي عقدته الأمم المتحدة في المكسيك عام 1982م وتم فيه إقرار إقامة عقد عالمي للتنمية الثقافية بين عامي 1988م إلى عام 1997 - حيث أوكل المؤتمر لمنظمة (اليونسكو) مهمة إنفاذ ذلك القرار.. لتتقدم (المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم) بمبادرة أن تتولى نيابة عن (اليونسكو) إنفاذ ذلك القرار في محيطها العربي وبين دوله وشعوبه، فكان أن انطلقت منها فكرة (العواصم الثقافية العربية).

لقد كان جميلاً من المجلس الإداري الفلسطيني الذي تم تشكيله لإدارة الاحتفالية بالقدس عاصمة للثقافة برئاسة وزيرة الثقافة السيدة تهاني أبو دقة.. على المستويين: الوطني الفلسطيني، والعربي بدعوة عواصم العالم العربي ومدنه.. للاحتفال بهذه المناسبة دعماً للقدس وعروبتها ودورها الثقافي العربي في محيطها، أن تروي كل ذلك الذي سبق وأن ذكرته بأمانة وموضوعية يوم الإعلان عن تدشين المناسبة من مدينة الناصرة في يناير الماضي.. تضع المجلس الإداري والقائمين عليه موضع الاحترام والتقدير. إلا أنني لم أقل ذلك أو بعضه لسعادة أخي الدكتور عماد، بل عبرت له عن فرحتي وسعادتي ب(الحدث) ونشوئه.. إلى جانب استعدادي للمشاركة في هذه الاحتفالية من أي مدينة أو أي أرض فلسطينية، مؤكداً له أن ذلك ليس موقفي وحدي بل هو موقف عشرات العشرات من أدباء وشعراء ومثقفي المملكة من وسطها إلى شمالها إلى جنوبها إلى شرقها إلى غربها.. مدارياً عنه في ذات الوقت أحزاني وأسئلتي الحارقة: أي قدس هذه التي سنحتفل بها عاصمة للثقافة العربية..؟

أقدس الاحتلال والجدار والحصار..؟

أم قدس هدم المنازل وإزالة الأحياء العربية التاريخية وتحويلها إلى حدائق عامة.. انتظاراً للسياح والحجاج الكاثوليك المتوقع قدومهم لزيارة (القدس الكبرى) و(العاصمة الأبدية) للدولة اليهودية إسرائيل..؟

أم قدس الحواجز ونقاط التفتيش المدججة بالسلاح، ومنع المصليين من الاقتراب من المسجد الأقصى إذا كانوا أقل من خمسين عاماً..؟

أم قدس الخرائب والمدارس والمساجد والكنائس المتداعية.. التي لا تسمح سلطات الاحتلال بترميمها أو تعميرها أو حتى طلائها.. إن وجدت الإمكانات المادية لذلك..؟

أي قدس.. يا قلبُ..؟

وأي قدس.. يا عقلُ..؟

نعم.. لقد جاء الدكتور عماد شعث بهذا الخبر السعيد المفرح.. وعمل على إنجاحه واستقطاب المثقفين من حوله في المنطقة الغربية بكل طاقاته وعلاقاته واتصالاته الرسمية والثقافية والشعبية.. لكن هذه (الفرحة) في ظل الطغيان الإسرائيلي، والتشتت الفلسطيني، والابتعاد الأمريكي المحسوب، والغيبوبة العربية.. تبقى وكما قال الشاعر الروسي:

(إن يوم النصر هذا.. يوم أشيب الرأس.

لقد جاءنا بفرحة.. تجري الدموع في مآقيها)!!




 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد