لست مميزا، ولست درويشا، ولا أحلم بإفراط، وأكره الخطيئة وأحاول تلاشيها، ولا أحب الاحتجاج، ولا أبتغي مشاكسة الآخرين، وأمقت الثرثرة والضجيج، ولا أعرف الاختباء في الزوايا المعتمة، ولا النشر في دهاليز الشبكة العنكبوتية المظلمة.
ولا إسقاط الآخرين، ولا تجريحهم، ولا أعرف ما هي المداهنة ولا التسويف، ولا المراوغة، ولا التلون، ولا أعرف كيف تحيك الدسائس، وليس لي وجهان، وجه في الصباح والوجه الآخر في المساء، وأكره أن أتسلى بعذابات الآخرين وجراحهم، أحب النور، بدءا من زاوية السرير إلى كل الزوايا الأخرى، أحب لغة البناء، وأمقت لغة الهدم، لهذا أنا مسكون بحب وطني حتى النخاع، وأجاهر بهذا الحب وأعلنه ولا أخفيه، وبي شهوة عارمة لتقبيله مابين العين والعين كل حين، مصاب أنا بالدهشة به، دهشة التشهي والتحسس لجسده الغض الطري، مسحور أنا بهذا الجسد البلوري الممرد، وهائم بروحه الشفافة، ومسافر بنرجسية عطائه، ولغة حواره وحضوره، لوطني سمفونية لحن تتسلل إلى العظم والدم، له خيال طافح بالأمنيات الكبار، يبشر دوما بالسلام والدعة، ولا يبشر بنذر سوداء حالكة، لا تشبهه الأوطان، ولا يشبه الأوطان الأخرى، هو وريث نفسه، وليس وريثاً للأوطان، ترفرف على محياه بلابل النبل، صوته هادئ وحيوي، له عبقرية وليس له جنون، هو عنقود ضوء، وامتداد ظل، وأبخرة تباهي، وقصيدة رائعة، وصورة مدهشة للحياة وللإنسان، لوطني نمو وتصاعد وسايكودراما لها خصائص وشكل وأهداف كامنة وفق أسلوب ونفس إيقاعي راسخ متدفق، لتضاريسه رقة وعذوبة وعاطفة ورنين سحر، هو مثل فراشة شفيفة تلاعبها نسائم الفجر الربيعية، وطني قمر كبير وطير حمام أبيض وعشب ورمل ومصابيح ونجوم ودفء، له رغبه جامحة للزهو والاعتلال، كالتفاحة هو وطني وكالمنارة الثلجية البيضاء، هو فيروز وبلورة كريستال وواحة من رمل ونخل وماء، له هدوء مسكون في خبايا جوفه يتحول حينا إذا غضب إلى خيط من نار ودوار، مع وطني أحس بهسهسة في العشق المباح وأسير معه بخطى وئيدة نحو نوارسه التي تحط فوق الماء، أعشق حيطانه العتيقة ومناجاة تخومه وسنابل قمحه المتوهجة بخيوط القمر، أحب غديره وغزالاته وغيوم مطره واشتعالات فرحه، لي مع وطني تلاحم ووجود وتفرد وكفاح، ولي مخاض عجيب في الكتابة عنه والاسترسال فيه، العلاقة بيني وبينه مثل العلاقة ما بين الدم والقلب وما بين القمر والضياء، تبهجني رغبتي الجامحة فيه وتسربلني في أحضانه الدافئة، لذا يحق لي أن أكتب عن وطني كل حين وأن ألوذ به كما تلوذ الحمائم فوق هامات النخيل، وأن أخاف عليه من أزيز الرصاص الخارج من بنادق الحقد والعفن، ومن الأصوات الناعقة، ومن فحيح الأفاعي السامة، ومن لدغات العقارب المميتة، ومن الثعالب ذات الخداع والمراوغة، ومن الألسنة البغيضة التي تلوكه حسدا وغبطة، ومن الأقلام المأجورة الصفراء التي تقتات عليه والتي تشبه خنافس الجعل، ومن أصحاب القصور العقلي ومن الصبية ومن المراهقين الذين يملكون عتمة الضوء وضيعة الطريق والذين لا يتبينون بوضوح مطلع الشمس ولا ولادة القمر، ومن الممانعين والرافضين والناكصين على أعقابهم، ومن الغاوين والمنافقين والبهلوانيين وأصحاب النظرة والهوى، الذين لهم وجع وقبح ونكد ومتاهات وغموض ورطانة وتهاويل وهلس وعتمة ودوار وتخلف وديمغواجية وسلوك أفك، ومن العثث التي تحاول النخر بصمت في قاع السفينة، ومن فقاعات الصابون التي تتطاير بعبث يشبه عبث الرقص المجنون، فيا وطني دمت طودا شامخا ولحنا عذبا شجيا ننشده في الصباح وعند كل مساء، رغم كل المتلونين والمتخاذلين والمبدلين لجلودهم والذين في قلوبهم مرض وعلة وسقم ووهن.
ramadan.alanazi@aliaf.com