رحل بصمت، رحل دون ضجيج إعلامي يستحقه نظير ما قدمه للعلم والبشرية. لقد نشأنا وتربينا على برنامجه التلفزيوني الأثير (العلم والإيمان)، ثم تشكلت ثقافتنا بواسطة كتبه الكثيرة التي (التهمناها) أيام الدراسة
الجامعية؛ فقد كانت كتبه صغيرة تستطيع قراءتها وفهمها بسهولة، مثل برنامجه الشهير الذي يتحدث فيه عن أمور علمية غاية في التعقيد يتحدث عنها بلغة رجل الشارع المصري البسيط صاحب النكتة.
رحل عنا مصطفى محمود المفكر والطبيب والكاتب والأديب المصري الأبرز خلال القرن الماضي، رحل بعد أن عرف لغز (الحياة) و(الموت)، بعد رحلة طويلة مع المرض، تمردت روحه على واقعه في صور متناقضة من صور الحياة التي شكلته، ثم تصالحت روحه مع روحه؛ فنشر (رحلتي من الشك إلى الإيمان)، وكرس وقته وعلمه وحياته لمنهجه الجديد؛ فنشر (حوار مع صديقي الملحد)؛ فتوالت الكتب، ثم توج علمه وعمله بأروع كتبه (الله)، والذي كان حديث المحب، وترنيمات العاشق الذي ذاق حلاوة الإيمان، وعادت روحه تحلق من جديد، ولكن هذه المرة في رحاب الإيمان.
ومصطفى محمود - رحمه الله - ألف 89 كتاباً في التخصصات العلمية والدينية والفلسفية والاجتماعية والسياسية، إضافة إلى المسرحيات وقصص الرحلات، وكتب تلك الكتب بأسلوبه المتميز بالجاذبية مع العمق والبساطة.
وقدم الدكتور مصطفى محمود - عليه رحمة الله - 400 حلقة من برنامجه التلفزيوني الشهير (العلم والإيمان)، وأنشأ عام 1979 مسجده في القاهرة المعروف ب(مسجد مصطفى محمود)، ويتبع له ثلاثة مراكز طبية تهتم بعلاج ذوي الدخل المحدود، ويقصدها الكثير من أبناء مصر؛ نظراً إلى سمعتها الطبية، وشكل قوافل للرحمة من ستة عشر طبيباً ، ويضم المركز أربعة مراصد فلكية ، ومتحفاً للجيولوجيا ، ويقوم عليه أساتذة متخصصون. ويضم المتحف مجموعة من الصخور الجرانيتية، والفراشات المحنطة بأشكالها المتنوعة وبعض الكائنات البحرية (وفقاً لموسوعة ويكيبيديا).
وكانت رحلته العلمية مليئة بالصعوبات؛ فحتى برنامجه الشهير العلم والإيمان حينما عرضه على التلفزيون المصري وافق على عرضه على أن تكون قيمة الحلقة الواحدة 30 جنيهاً مصرياً، فتعرقل البرنامج حتى ظهر داعم من رجال الأعمال؛ فأنتج البرنامج على نفقته؛ فكانت سهرة الاثنين (يوم عرض البرنامج) توازي سهرة حفلات أم كلثوم، وهذا نادر في برنامج يتخذ طابعاً علمياً، ومن مميزات البرنامج تلك المقدمة الموسيقية وهي نغمة ناي يثير الحزن والتأمل لا تزال عالقة في العقل الباطن لمتابعي البرنامج، ولا نزال بالطبع نتذكر عبارته الشهيرة حينما يفتتح البرنامج ب(أهلاً بيكم)!
بتاريخ الاثنين 2-6-2008 كتب الشاعر فيصل أكرم مقالاً في (الثقافية) - الإصدار الأسبوعي لصحيفة (الجزيرة) - بعنوان (ذاكرة اسمها لغز الحياة.. ذاكرة اسمها مصطفى محمود)، وطالب الصحيفة بإصدار ملف (خاص) عن مصطفى محمود؛ تكريماً له، وبالفعل.. في تاريخ الاثنين 7- 7-2008 صدر العدد الخاص من (الجزيرة الثقافية)، وكان من الغلاف إلى الغلاف عن مصطفى محمود، وضم الملف كتابات لثلاثين مثقفاً عربياً من محبي مصطفى محمود، ومن أبرزهم: د.غازي القصيبي، د.زغلول النجار، د.إبراهيم عوض، د.سيّار الجميل.. وغيرهم من الأدباء والمفكرين والأكاديميين، إضافة إلى الشاعر فيصل أكرم الذي قام بإعداد الملف كاملاً وتقديمه بصورة استثنائية. كما ضم العدد الخاص صوراً خاصة وكلمة بخط يد مصطفى محمود وأخرى بخط ابنته أمل. وقد كانت (الجزيرة) سباقة - كعادتها - لتكريم الأحياء قبل الأموات.
رحمك الله يا مصطفى محمود رحمة واسعة، وأسكنك فسيح جناته، وجدير بالحب والحزن أن أختم بما قاله عنه الشاعر الراحل كامل الشناوي حيث قال: (إذا كان مصطفى محمود قد ألحد فهو يلحد على سجادة الصلاة، كان يتصور أن العلم يمكن أن يجيب عن كل شيء، وعندما خاب ظنه مع العلم أخذ يبحث في الأديان بدءاً بالديانات السماوية وانتهاءً بالأديان الأرضية، ولم يجد في النهاية سوى القرآن الكريم).
mk4004@hotmail.com