في مقالي السابق عن المعلمين والمعلمات أشرت إلى بعض السلبيات التي يحملون مسؤوليتها لأنها متعلقة بهم، صادرة من تهاون أكثرهم بالمسؤولية الملقاة على عواتقهم، ومن عدم حرصهم على تطوير ذواتهم، وتوسعة دائرة ثقافتهم العامة والخاصة، ومع أن المقال خاص بهذا الجانب إلا أنني أشرت فيه إلى تقديرنا الكبير لفئة من المعلمين والمعلمات الجادين المبدعين القائمين بما يجب عليهم خير قيام، وهي الفئة الأقل كما هو معلوم لدينا جميعاً.
وصلتني بعد نشر تلك المقالة أصداء مختلفة، وآراء متباينة: منها ما يؤيد ما أشرت إليه ويضرب لي الأمثلة والشواهد والتجارب من واقع المعلمين، ومنها ما يعترض على ما أشرت إليه، ويرى أنني قد أجحفت بحق هذه الفئة المثقلة بالأعباء، لأنني لم أشر إلى السلبيات الكبيرة، والعوائق الكثيرة التي تعترض طرق المعلمين والمعلمات فتقتل فيهم روح الإبداع، والطموح، وتدفعهم إلى السلبية، وتحول بينهم وبين العطاء المنتظر منهم، ومن تلك الآراء والأصداء ما يرى في المقالة تأليباً للمجتمع على المعلم، وتشويهاً لدوره الكبير الذي يقوم به، وقد انحصر هذا النوع من الآراء في رسالتين وصلتاني تحملان هذا الفهم لما كتبت.
وحتى تكون الصورة أكثر وضوحاً وبياناً، وليتحقق ما رميْتُ إليه في تلك المقالة من الإسهام في التوجيه لما هو أفضل وأكمل وأجمل أقول:
المقال الذي كتبته عن المعلمين والمعلمات -وفقهم الله- كان واضح الهدف، فهو محاولة لتوضيح التقصير الحاصل من المعلمين والمعلمات أنفسهم، وهو أيضاً دعوة لمن كان مقصراً إلى مراجعة النفس، واستشعار عظم الأمانة وضخامة المسؤولية، وما دام هدف المقال كذلك فمن لوازمه أن يشير إلى ما يحيط بهذا الهدف من السلبيات لتلافيها، وأن يقتصر على ذلك حتى يشبع الفكرة ويبتعد عن التشتيت الذي لا يخدم الهدف، وهذا الأمر متعلق بذوات المعلمين والمعلمات الذين لا يسعون إلى تطوير أنفسهم بالقراءة والاطلاع، والحصول على الدورات التدريبية التي تفتح أمامهم آفاقاً رحبةً للعطاء الأمثل في مجال التربية والتعليم، ونحن نعلم أنَّ لهذه السلبيات بعدين لسنا غافلين عنهما:
البعد الأول: يتعلق بالمعلم والمعلمة نفسيهما، والبعد الثاني: يتعلق بسلبيات الأجواء المحيطة بهما، والواقع الذي يعيشانه ويعانيان فيه من الضغط النفسي، والعبء العملي الثقيل، والتعويق الروتيني لطموحاتهما وجوانب الإبداع عندهما.
أما البعد المتعلق بالمعلمين والمعلمات: فإنهم هم المسؤولون فيه عن تقصيرهم وعدم أخذهم بأسباب النجاح والإبداع والتألق في أداء هذه المسؤولية والمحافظة على هذه الأمانة، وهو ما طرحته بوضوح في المقال السابق.
أما البعد المتعلق بالأجواء السلبية المحيطة بالمعلمين والمعلمات فهو موضوع مهم خطير يحتاج إلى اهتمام كبير من الجهات المسؤولة عن التربية والتعليم ومن المجتمع كله، وحتى تكون هذه المشكلة محددة المعالم هنا، فإنني سأنقل لكم بعض ما وصلني من خلال اتصالات ورسائل الإخوة المعلمين والمعلمات لندرك خطورة السلبيات المتعلقة بهذا الجانب، وضرورة العمل الجاد المبادر لعلاجها وإزالة أسبابها. أحد المعلمين يقول: إن كثرة الحصص التي ترهق المعلم والمعلمة تؤدي إلى ضعف العطاء، وعدم قدرتهم على إعطاء ما لديهم من إبداعات؛ فهم لا يكادون يجدون فرصة للراحة من تعب الحصص المتلاحقة، وقد أكد لي هذا المعلم وعشرات غيره من المعلمين والمعلمات أن الأنصبة تتجاوز الأربع والعشرين حصة المقررة سقفاً أعلى نظامياً في كثير من المدارس، وإحدى الأخوات تقول: يا ليتك أنت وغيرك ممن يحملون أمانة الكتابة تكتبون عن كيفية تهيئة المناخ الوظيفي المناسب لمكانة المعلم والمعلمة، فهنالك روتين إداري قاتل للطموح، وأنا في هذا اليوم تحدثت مع زميلاتي المعلمات في المدرسة عن ضرورة انشراح الصدر، والإقبال على التعليم بروح عالية مهما كانت الظروف المحيطة بنا، فما سمعت منهن إلا عبارات اليأس بعد أن ضربن عشرات الأمثلة من سوء تعامل الإدارة معهن، وقالت إحداهن بلسان الجميع: يا بنت الحلال دعي عنك المثاليات وقومي إلى الفصل قدمي بعض ما عندك من معلومات المنهج، فلن يشعر بك أحد مهما صنعت.
وأحد المعلمين يقول لي بلسان عربي مبين: (يا أخي حرام عليك، المعلمون والمعلمات- ما هم ناقصينك- (علشان) تثير عليهم المجتمع، يكفيهم الأجواء الوظيفية الخانقة، والحصص المتراكمة وتجاهل طموحاتهم لأنهم مهما عملوا لا يجدون التقدير.
أما إحدى المعلمات فتقول: لقد شهدت في اليوم الذي نشرت فيه مقالتك الإحباط الذي حطم شخصية تلك المشرفة المتألقة في مدرستي؛ حيث لم تجد دعماً لتنفيذ مجموعة من الأفكار الإبداعية في مجال الإشراف، فتحوَّلت إلى معلمة، ليتك رأيت دموع الهزيمة في عينيها حتى تعرف حجم المشكلة.
وأقول: إنَّ العملية التعليمية والتربوية لن تؤتي ثمارها المرجوة في هذه الأجواء القاتمة التي يتواتر الخبر عنها حتى أصبحت حقيقة لا تنكر.
إشارة:
التحفيز النفسي (التشجيع) أعظم أثراً من التحفيز المادي، وكلاهما مهم.