لا تنجح التحولات الهيكلية في أي قطاع كان دون المرور بمخاض شديد ومؤلم نتيجة حالة عدم الاتزان المواكبة لهذا التحول، نتيجة تغير قواعد اللعبة وقيمها ومفاهيمها ومتطلبات النجاح فيها، ونتيجة لضرورة معالجة إختلالات خارج منظومة هذا القطاع. ولاشك أن بلادنا تمر بهذا المخاض اليوم نتيجة للتحولات الهيكلية للاقتصاد السعودي لمواجهة التغيرات الاقتصادية المحلية والعالمية.
التحول الهيكلي الذي أراه ويراه غيري كثير أن بلادنا تتحول من الهيكل الاقتصادي الرعوي إلى هيكل اقتصاديات السوق، وهو تحول يستدعي إعادة تشكيل ثقافة المواطن السعودي تجاه قيم ومفاهيم العمل والإنتاجية والارتقاء في المناصب الإدارية ذلك أن اقتصاديات السوق تلغي كل معايير الاختيار والاستمرارية والترقيات القائمة على المكانة الاجتماعية والعواطف وتبادل المصالح (أمسك لي وأقطع لك) فالمنشآت الاقتصادية تبحث عن الموارد البشرية المنضبطة المنتجة والمبتكرة والمبدعة دون أي اعتبار لجنسية أو عرق أو منطقة أو أصل أو معتقد.
وإذا كان الأمر كذلك فلا بد لنا ونحن نمر في فترة المخاض هذه أن نعمل على معالجة ثقافة الشباب السعودي الحالي والقادم، أما الكبار فقد بنوا ثقافتهم ولا سبيل لمعالجتها لأنها أصبحت بحكم المعتقدات، نعم علينا إعادة تشكيل ثقافة الشباب وبأسرع وقت ممكن للاستفادة من طاقاتهم والشباب كلهم طاقة إذا لم نوجهها إلى الطريق الصحيح انطلقت إلى الطريق الخطأ، وكلنا يعلم أن شبابنا وفي ظل الهيكل الاقتصادي الرعوي الذي يكاد يقدس التركيبات الاجتماعية يطلق طاقته في الازدراء أكثر من الإبداع والعطاء والإنتاج من خلال رفع مقام أسرته وقبيلته ومنطقته والتقليل من الآخرين وهو ما يجعلهم يقرؤون كتب الأنساب والغزوات القبائلية وكتب الشعر وكتب المشاهير من أسرهم وقبائلهم ويعيدون طباعتها وتوزيعها ويطلقون طاقاتهم التفكيرية والإبداعية في عرض حجم أسرهم وقبائلهم ومناطقهم ومناقبها وإبراز سيادتها على الغير بأي طريقة كانت، وبالتالي فنحن أمام جهود كبيرة وجبارة ولكنها ضارة ولا أقول مهدرة فقط.
أوصي الهيئة العامة للاستثمار والتي لعبت دورا كبيرا في تحسين البيئة الاستثمارية وتعمل اليوم من خلال عدة مبادرات أطلقتها على تعزيز تنافسية الموارد البشرية الوطنية أن تنسق مع مؤسساتنا الثقافية لتعلب دورها في تحويل طاقة شبابنا من مسار الازدراء إلى مسار الإبداع من خلال زرع قيم الابتكار والإبداع والقضاء على قيم التعالي والتكبر بعظام الموتى وأفعالهم بدل اتخاذ إنجازاتهم نماذج للعطاء والإيثار والكرم والإنتاج والتقدم. وأعتقد أن مؤسساتنا الثقافية متى ما لقيت التوجيه المناسب سوف ترسخ ثقافة الإبداع وتحث الشباب على ممارستها وتذوق أثرها على الواقع الذي يعيشونه ليجدوا الراحة النفسية التي يجدونها اليوم بازدراء الآخرين والاستعلاء عليهم بحجم أو إنجازات عائلته أو قبيلته حتى وإن كانت من عالم الخيال، وعلى المجتمع ومؤسساته أن يدعم المؤسسات الثقافية لإسقاط ثقافة الازدراء لصالح ثقافة الابتكار والإبداع باحترامه للإنسان المنتج والمنضبط والمبدع لا الإنسان الثرثار المتباكي على أمجاد أجداده.
****
alakil@hotmail.com