عندما يختنق النظام السياسي فإن الحل الأقرب والأسهل اختلاق أزمة خارجية، وتصعيدها، لصرف الأنظار عن الأزمة الحقيقية الخانقة. هذا باختصار ما تمارسه السياسة الإيرانية هذه الأيام. أزمة إيران السياسية لها وجهان: أحدهما داخلي، تجلى بوضوح في الصراع الملتهب بين الإصلاحيين والمحافظين، والذي مازال حتى اللحظة قائماً، لا يكاد يهدأ حتى يستعر ثانية. والوجه الآخر للأزمة خارجي، سببه محاولات إيران اللاهثة لامتلاك السلاح الذري، وفرضه كواقع على الجميع. هذه الأزمة الخانقة، بوجهيها الداخلي والخارجي، هي السبب في تقديري وراء الدعوة الإيرانية لاستغلال موسم الحج، وإقحامه كساحة صراع.
وتعرف إيران من تاريخها معنا أن تمرير أي نوع من المظاهرات السياسية خلال موسم الحج - مثلما دعا الخامنئي ونجاد - لن يحدث مهما كان الثمن؛ فقد حاولوا مراراً في الماضي، وفشلت كل المحاولات. غير أن مثل هذه لأزمة بالنسبة للداخل الإيراني من شأنها في المحصلة أن تحرج الإصلاحيين، وتحاصر تحركاتهم، وتجعلهم يذعنون راغمين إلى التهدئة وعدم التصعيد؛ سيما وأن نظام نجاد في أمس الحاجة لتهدئة الجبهة (الداخلية).. وفي الوقت ذاته فإن الدعوة إلى إقامة مظاهرة للبراءة من الغرب من شأنها - كما يطمحون - أن تحافظ على صورة إيران لدى العرب (الديماغوجيين) كما هي عليه؛ فالمظاهرة التي يُطالبون بها كما تقول الأنباء الواردة من طهران هي للتنديد و(البراءة) من الغرب وأمريكا على وجه الخصوص، مما سيجعل هذه الدعوة تجد ترحيباً وقبولاً لدى أعداء أمريكا من العرب، إضافة إلى أن دعوة كهذه ستحافظ على بريق الوجه الثوري لإيران، خاصة وأنه تأثر كثيراً بشكل سلبي في الآونة الأخيرة، بعد التنازلات التي قدمها الإيرانيون خوفاً من الحصار الاقتصادي.
الذي فات على الإيرانيين إدراكه، وهو عنصر جوهري هنا، أن الخلاف السني الشيعي بين الطائفتين هو الآن في الذروة. فلم يمر في تاريخ الطائفتين فترة من التأزم والحساسية والاحتقان مثلما هي العلاقة بين الطائفتين الآن. ولعل ما تشهده الساحة العراقية، والساحة اللبنانية، والساحة اليمنية، وكذلك الساحة الإيرانية نفسها، من صراعات طائفية (دموية) بين السنة والشيعة، أجج مثل هذا الخلاف، وكرّسه؛ خاصة وأن إيران قد أظهرت في هذه الصراعات وجهاً طائفياً (قبيحاً) هَز كثيراً صورتها لدى العرب المسلمين، الذين كانوا يظنون في الماضي أن إيران (الإسلامية) لها أولوية عند الساسة الإيرانيين على إيران (الشيعية)؛ إلا أن الأحداث، خاصة الأخيرة منها، كشفت عن وجه إيراني (طائفي) غاية في التعصب، مما انعكس سلباً على صورة إيران في المنطقة العربية.
ولعل من المفارقات التي تؤكد أن مثل هذه الممارسات السياسية (طائفية) بامتياز، ما صدر لدعم المسيرة الإيرانية من مجلس الجمعيات العراقية في إحدى الدول الأوربية؛ فالمسيرة - كما جاء في المنشور - تعبر عن (الولاء) لنهج (جمهورية إيران الإسلامية)، في حين أن التي تدعو إليها، وتؤيدها، وتساندها، جمعيات شيعية (عراقية)!. مفارقة لا بد من التوقف عندها؛ وهذه النقطة - بالمناسبة - أثارتها كثيرٌ من الصحف العراقية السنية؛ مما يؤكد أن المستفيد الأول من إيقاظ الخلاف السني الشيعي، وتأجيج نيران الصراع بين الطائفتين، هم بالدرجة الأولى الإيرانيون؛ أما أول الخاسرين من إحياء هذه النعرات، وما سيترتب عليها من تبعات، فهم الشيعة العرب، وبالذات في الدولذات الأكثرية السنية.
إلى اللقاء.