تحيزت في مقال الأحد لبعض ما يستوقفني من تناقضات أشعر تماماً بأنها تحوك بها صدور المتلقين.., ونحن عنكم نتكلم، ولكم نتجه، ممن تحيزت له مؤذناً يرفع صوته لينادي الناس للعبادة والطاعة والاستجابة لنداء الله تعالى لخلقه المسلمين ليمتثلوا بين يديه عابدين مصلين في اليوم خمس مرات.. وقد جُعلت المساجد بدهياً ليؤمها الناس لذكر الله، وأول سمات هذا التوافد على المساجد إقامة الصفوف وتسويتها, وتكاتف المناكب مساواة وعبودية, كي يتآخى الناس من حيث يتنافسون إقبالاً وحرصاً وتعبداً وذكراً وامتثالاً واقتداءً, وثاني هذه السمات اجتماع المسلمين وتعارفهم فالمسجد مدرسة يتعلم فيها المرء السلوك والمحبة والصفح والإيثار، ثمة سمة أخرى مهمة للمسجد أنه البيت الذي له رب واحد هو الله تعالى, لذلك فإن المسلمين في الحي الذي يقوم فيه وتفتح أبوابه لهم, يصبح المكان المقصد لحالاتهم, يجتمعون للتدارس، ولفك الكربات وللتعاضد في الأزمات، وللمشاركة في المصيبات، فكلما كان الجمع فيه أكبر كانت الرسالة عنه وفيه أوفى..
غير أن حيزاً من المسافة في الحي الواحد تقوم فيه عدة مساجد لا تفصل بين بعض بيوتها سعة مسافة كبيرة، تتقلص فيها الصفوف، ويقل عدد الأقدام إليها, وتقام فيها الصلاة على قلة من المصلين، لا يتاح فيها التدارس, ولا التكاتف، ولا التعارف، بل بعضها يكاد المكان فيها خاويا لقلة عدد صفوف المصلين.. كذلك حين تنطلق المآذن بالدعاء للصلوات تتداخل الأصوات عنها، وتقل قدرة الساكنين جوارها وحولها، على التركيز بالدعاء معها، بل كثيرا ما يحدث أن ينقطع بالداعي دعاؤه وهو يبدأ مع مؤذن وينتهي مع آخر.. وفي هذا الكلام واقع وحقيقة لا أحسب أن النوايا فيه تذهب لغير الرغبة في التركيز والخشوع، ومن ثمة في إعطاء مساجد الأحياء حقها في أداء رسالتها، بدل أن تتشتت لتقاربها, فتارة يذهب المصلون يمينا وتارة شمالا، وكل طرقهم في حاراتهم تؤدي لمسجد.. مما يتيح للجيران التباعد، وللمختلفين التباغض، وللجافين التساهل..
لقد ورد في بريدي في الموقع الخاص بالجزيرة هذا التعقيب غير المذيل باسم عن تلك الفقرة الواردة في مقال أمس الأول، يقول أو تقول: (جزاك الله خيراً ولكن أستغرب على مثلك وأنت تحبين الخير أن تنتقدي كثرة المساجد، فهذا يفرح به المسلم ولا ينتقده, فكل ما زاد ذكر الله لانت القلوب يا دكتورة خيرية) فأقول: إن زيادة ذكر الله ليس بكثرة المساجد بل بدعمها بما يجعلها قادرة على القيام برسالتها في استقطاب المصلين وفي إقامة الدروس وفي عقد حلقات التعليم وفي الإجابة عن حاجة كل ذي حاجة، وفي تقريب قلوبهم، وإتاحة لقاءاتهم وفض نزاعاتهم، وتشجيعهم على التكافل والتعاضد وأن تكون المؤازرة للبيت والمدرسة، فهل يمكن أن تفتح مدرسة بين شارعين وآخر؟ وتستوعب من أبناء الحي جزءاً..؟ وهل يكون للمرء بيت وبعد أمتار بيت آخر..؟ أين يستقر؟ وأين يتعلم..؟ المدارس والبيوت والمساجد لها مسؤولية تنطلق عن مسؤولية كل بيت ليتم التعليم في المدرسة والتطبيق في المسجد، والتخصيص في البيت من ثم، حلقة لا يتحقق لها استحكامها إلا بتوسيع مساجد الأحياء، وتقنين المسافات بينها.. والتقليل من كثرتها، لتلك المقاصد الشرعية منها،.. بارك الله فيمن قرأ وأدرك، وفيمن أدرك ولم يخرج بمفهومه عن نية الكاتب.