لدينا في العالم العربي قاطبة إشكالية تتمثل بإدارة الأجهزة الحكومية والوزارات بعقلية وذهنية حكومية يُغلفها العمل الروتيني والثقافة البيروقراطية التي تعطّل العمل وتقتل الإبداع، ولأن الأجهزة الحكومية في الغالب ليس لها أهداف محددة ومعايير ذات أهداف ربحية وهي في حقيقة الأمر يجب أن تكون كذلك، أقول من أجل ذلك فإنك تجد الوزارات والدوائر الحكومية تدار بعقلية وذهنية البيروقراطية الرتيبة التي تشل العمل وتقضي عليه، لأنه ليس هناك تنافس سوقي أو تنافس مع أطراف آخرين، هناك عمل يقوم على إجراء روتيني يقضي بإنهاء معاملات المراجعين أو ذات الموظفين أنفسهم داخل الوزارة أو الدائرة الحكومية المعينة، أقصد من هذا أنه ليس هناك أهداف واضحة يجب تحقيقها خلال اليوم أو الأسبوع أو الشهر، وبالتالي يتساوى عمل الموظف المجد من المتكاسل والمتخاذل، ومن هنا فإن قانون الثواب والعقاب يكاد لا يرى في بيئة الدوائر الحكومية ومن ثم فالجميع سواسية المجد والمتراخي وبالنهاية سنحصل على نتائج مجهضة وأهداف ضعيفة ومنجز يكاد يكون في أضيق حدوده، للتاريخ هنا أقول دعونا ننظر لتجربة ارامكو وسابك والاتصالات السعودية بإعزاز وتقدير وكلها دوائر حكومية ولكنها تدار بثقافة الرؤية الثاقبة وعقلية القطاع الخاص المهني الذي يكافئ المحسن ويعاقب المسئ، وبالتالي، هناك أهداف ومعايير وبيئة عمل تساعد وتساند المجد والمجتهد، إن هذه التجربة الناجحة في الاتصالات السعودية والتي كانت قبلها تئن بمشكلاتها وبإدارتها المتكلّسة ذات العقلية البيروقراطية التي تقوم على الروتين القاتل وعلى قتل الإبداع والطموح وعلى معاملة الموظفين بالتساوي بغض النظر عن إنجازه من تقاعسه والنتيجة كما هو معلوم للجميع ومن عاش تلك الفترة، إذا أردت هاتفا ثابتا لا بد لك أن ترتدي المشلح وتقبّل ألف أنف قبل الوصول إلى معالي الوزير حتى يتكرّم بمنحك هاتفا لمنزلك، ومن ثم تقام الولائم والمناسبات عندما يصلك هذا الهاتف؟!
والمفارقة هنا أيها السادة وحتى المقارنة تكون ظالمة بين ماضي الاتصالات وزارة البرق سابقا- وحاضرها فالبون شاسع والنتائج مذهلة الآن، والتنافس على أشدّه لصالح العميل والمجتمع، وأعتقد أن من نافلة القول هنا أن تجربة دبي هي من التجارب الناجحة وإن اختلف معي بعض القراء الكرام، إلا أنها تظل من التجارب الناجحة فدائماً ما أردد أن حكومة دبي أديرت بعقلية القطاع الخاص، وبالتالي، فإن كافة الدوائر الحكومية هناك تفاعلت مع هذه العقلية وهذه التجربة الفذة لما رأت صاحب القرار له رؤية واضحة بقلب المعادلة والنظام التقليدي إلى نظام يقوم على المعايير الحقيقية والمهنية لتحقيق النجاحات والتطلعات التي نادت بها حكومة دبي، وليس عيباً أن نتخذ من الدول الأخرى تجاربها الناجحة ونحذو حذوها ونطوّر مفاصل القصور لدى تلك التجربة، واجزم هنا أن حكومة دبي استفادت من الخبرات الأجنبية البريطانية والكندية لتطوير جهازها الحكومي وقتلت العقلية والذهنية البيروقراطية لتحل محلها الذهنية الاقتصادية والتجارية والمهنية القائمة على تحقيق الأهداف وخلق الانجازات والدفع ببيئة الإبداع والنجاح قدماَ، طالما لدينا أيها السادة تجارب ناجحة وماثلة أمام أعيننا كالاتصالات وسابك وارامكو وكثير من الشركات الحكومية التي تدار بالعقلية الاقتصادية وبعقلية القطاع الخاص: لماذا لا تعمم هذه التجربة على بقية القطاعات وزارة التجارة، العمل، المياه، الكهرباء وننسلخ من عقلية البيروقراطية الحكومية، الخدمة المدنية؟ لماذا لا تدار بعقلية وذهنية القطاع الخاص؟، لماذا لا تعدّل الأنظمة والقوانين الحالية؟، الجميع أيها السادة في نظام الخدمة المدنية من هو على المرتبة (س) فانه يحق له بنهاية السنة علاوة (ص) لمرور سنة دونما أي اعتبار آخر أو معايير تقوم على الكفاءة والعطاء والإبداع!، إنه لمن قتل الإبداع أن يتساوى الموظف الذي يعمل والذي لا يعمل بأي عرف أيها السادة تُبنى تلك المعايير، حتى نظام العسكريين إذا أنت برتبة ملازم فعليك أن تقضي سنتين -على ما أعتقد- فتصبح ملازما أول، لماذا لا توضع معايير تقوم على المنافسة والإبداع والانجاز والعطاء للوطن والأمة، هنا أيها السادة سنقتل الإبداع وتشيع ثقافة الخمول وعدم المبالاة، وبالتالي نصبح دولاً نامية مع مرتبة الشرف، لماذا لا نضع أطراً وقوانين ونظما ذات طابع اقتصادي مهني ونظرة ورؤية تقوم على معيار الانجاز وتحقيق الأهداف بدلا من المعايير المتكلّسة والصّدأة من عشرات السنين؟، كل شيء نستطيع أن نديره بذهنية وعقلية القطاع الخاص حتى مدارسنا الحكومية، حتى نخلق جيلا من الأساتذة والمربين المبدعين، يجب أن تكون المعايير والمقاييس للمنافسة تقوم على مبدأ الثواب والعقاب، والمكافأة والانجاز.
دعونا أيها السادة نصلح بيئة الأجهزة الحكومية والدوائر الحكومية من الفكر الرّتيب والروتين لنخلق بيئة صحية تشجع على الإنجاز والابتكار والنجاح الخلاّق لنضيّق مساحة (راجعنا بكرة أو بعد أسبوع) لنرفع شعار الانجاز أولاً والابتكار ثانياً حتى نُخرّج جيلا يُغرس فيه حب العمل والإبداع والمنافسة الخلاقة مع الدول الناجحة لنسمو عاليا بين الأمم.
Kmkfax2197005@hotmail.com