يتسم المشهد الفقهي اليوم في المملكة بالتعددية في الاجتهادات الفقهية المؤصلة في صورة جديدة لم تشهد الساحة السعودية لها مثيلاً خلال العقود السبعة الماضية.
فنحن اليوم في المملكة صرنا نتعامل مع واقع فقهي يرحب ويسمح بالتعددية في الاجتهادات..
.. بين علماء المملكة - أنفسهم - الذين ينهلون ويصدرون من مدرسة مذهبية واحدة (الحنابلة)، وهم أيضاً ملتزمون بإطار عقدي متين (أهل السنة والجماعة قولاً وعملاً)، ومع ذلك أصبحوا اليوم قادرين أكثر من أي وقت مضى على البوح بالاجتهادات الفقهية التي قد يخالفون فيها بعض الفتاوى السائدة التي كان يجري العمل بها في البلاد في مراحل زمنية لها ظروفها الاجتماعية والسياسية والاقتصادية وإطارها الزمني الخاص بها.
ولم يكن (للتعددية الفقهية السعودية أن تتحوَّل من المماسة النظرية إلى الممارسة العملية) لولا تبني الدولة بقيادة خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز لخطط التطوير التنموي الشامل لكافة القطاعات الحيوية في البلاد (القضاء والاقتصاد والتعليم... إلخ) إذ إن نجاح مشاريع التحديث في البلاد كان متوقفاً في جزء من مسيرته على تجديد الطرح الفقهي وتوسيع الإطار العام للنظرة الشرعية لوقائع العصر ومتطلباته.
(فتقنين القضاء) و (أسلمة منتجات العمل المصرفي) و (تأصيل مفاهيم الاختلاط في التعليم ومجالاته) و (تحديد الأبعاد والأطوال للمشاعر المقدسة بغرض استيعاب الحجاج) و (إعادة صياغة أحكام التعامل مع المخالف).. وغيرها من القضايا الفقهية التي ظهرت على السطح في الأعوام القليلة الماضية كانت ستظل من القضايا والموضوعات النظرية الجدلية المطروحة للنقاش بين العلماء لعقود قادمة، ولكن عندما وضعتها الدولة اليوم في إطار الحراك التنموي وربطتها بتحقيق مصلحة البلاد والعباد، واتخذ المسؤولون قراراتهم بالمضي فيها (وفق مفهوم التعددية الفقهية).. وجدت هذه القضايا أرضاً خصبة للحوار العلمي وتشجَّع المجتهدون من كبار العلماء وأعضاء هيئات التدريس في الكليات الشرعية على إجراء البحوث والدراسات وتقديم الاجتهادات دون خوف من تصنيف أو رهبة من قمع أو وجل من إقصاء!!
إن الحراك التنموي وجهود الدولة والقطاع الخاص في اللحاق بركاب العولمة من خلال إطلاق مشاريع التطوير والتحديث التي تحمل في جوهرها مبادئ الإسلام، وتحقق في صورتها النهائية غايات المنهج الإسلامي في مجالات السياسة والقضاء والاقتصاد والتعليم، هذا الحراك الكبير اصطدم في بعض مراحله وتطبيقاته بضمور الاجتهاد الفقهي وركوده عند تصورات (مرحلية معينة)، مما استدعى بالضرورة بروز جملة من الاجتهادات الفقهية (الجماعية في بعض الحالات) الصادرة عن أهل العلم بالشريعة الذين تمكنوا من استيعاب الإرث العلمي للمدارس والاتجاهات الفقهية المختلفة، واستطاعوا بما لديهم من صنعة فقهية وقدرة عقلية وعلم بالواقع أن يتوصلوا للاجتهادات الفقهية المؤصلة التي تقود مسيرة النهضة دون أن تصادم نصوص الوحيين.
وقد بذل وتصدى وقاد مسيرة التعددية الفقهية في المملكة نخبة من أجلاء العلماء وكبارهم الذين ناضلوا وتحمَّلوا الكثير من الردود والإساءات حتى تمكنوا من استمالة وإقناع فئات كثيرة من مؤسسات المجتمع وأفراده بسلامة اجتهادهم الفقهي (الجديد) وصدوره وفق ذات المرجعية الإسلامية التي يصدر عنها الرأي السائد أو المألوف.. بل إن هؤلاء العلماء الأفذاذ قد أعادوا قراءة النصوص بعيون الواقع فوجدوا فيها ما يؤيد اجتهادهم ويدعم مسيرة البناء والتحديث في بلادهم، ويظهر دينهم العظيم كمحفز على الترقي والنهوض الحضاري.. وهم رغم قوة حجتهم وأصالة أطروحاتهم يؤكدون على الدوام على أن ما يعرضونه من اجتهاد يظل خياراً وقولاً ضمن أقوال العلماء المعاصرين يحق لمن شاء أن يأخذه أو أن يدعه ويأخذ بغيره من أقوال العلماء الأجلاء.
وإذا كانت (التنمية) قد سرّعت عجلة (التعددية الفقهية) عند أقوام.. فإن مصلحة (الدعوة) هي الأخرى حرَّكت أطرافاً أخرى للإفادة من (ممارسة) التعددية الفقهية، إذ رأت بعض القيادات الدعوية أن وسائلها باتت عاجزة عن التأثير في المتلقين، وأنها بحاجة جد ماسة لتجديد آلياتها في التواصل مع الآخر (سواء كانوا أتباعاً أو حكومات أو مؤسسات)، واستشعرت بذكاء الخطر الداهم الذي يحوم حول مكتسباتها ومنجزاتها إن هي استمرت طويلاً في غيبوبة (المماسة النظرية للتعددية الفقهية).
لذا فقد حسمت خيارها وامتطت حصان (الممارسة العملية للتعددية الفقهية) فظهرت الاجتهادات (المتسامحة مع الفرق الإسلامية الأخرى).. ورأينا الفتاوى المخففة للقيود الشرعية في المجالات الترفيهية والإعلامية، وبدأنا نستمع ونستمتع بالأطروحات الدعوية الهادئة المتعقلة (الناضجة كما أسماها أهلها) التي تقرّب بين أبناء الوطن الواحد وتدعم استقراره وتيسر على أبنائه في الحلال والحرام، ونجحت هذه الشخصيات رغم (جهودها الفردية) في إعادة ترتيب أولويات الخطاب الدعوي فقدَّمت العمل الاجتماعي وإشباع الحاجات الروحية على المشاغبات السياسية والجدل العقيم الذي أشغل (الإسلاميين) عقدين وأكثر!.
إن (المماسة النظرية للتعددية الفقهية) ظلت لعقود تستنسخ وتسترجع مقولات أئمة السلف ورموز المذاهب الفقهية المعتبرة عن أسباب الخلاف الفقهي بين العلماء وتسهب في الحديث عن كيفية تعامل طلاب العلم والعامة معه، ولكنها للأسف لم تمارس فعلياً هذا الخلاف أو تسمح له بالظهور والحضور في المجتمع، بل لقد كان المجتمع (بأفراده وبعض علمائه حينها) قاسياً وغير متفهم لأي بادرة لإبداء الرأي المخالف، ولو كان قائله أو حامله من أهل العلم والفضل.. مما كرَّس حالة من الركود والضمور في الاجتهادات الفقهية خصوصاً في النوازل المعاصرة.
ولقد أطال فترة (المماسة النظرية للتعددية الفقهية) أن الشخصيات العلمية الكبرى في البلاد في العقود الماضية كانت تحظى باحترام كبير، وحفاوة عظيمة (وهي تستحقها دون شك)، وبالتالي كان لفتاواهم وكلماتهم (واختياراتهم الشخصية في بعض الأحيان) قدر من التقديس والتعظيم والمهابة التي لا ينبغي المساس بها (في ذلك الحين).. وكان مصير الاجتهاد الفقهي المخالف أن ينحسر ويتضاءل ويظل حبيس الأدراج والمحاورات الخافتة بين المتسامرين.
وحتى تسير قافلة (ممارسة التعددية الفقهية) وتنجح في استمالة الرأي العام والوصول للجمهور العريض فإن قادتها مطالبون في - تقديري - بإظهار الاحترام الكامل لعلماء وأتباع الاتجاهات الفقهية (التقليدية) وعليهم أن يتحلوا بالحلم والشجاعة وروح المحاورة والجدال بالتي هي أحسن معهم لأن الوعي العميق والنظرة الواسعة لمجريات الواقع المعاصر لا تتأتى لعامة الناس بين يوم وليلة، ويحتاج تكريسها في المجتمعات إلى جهود جبارة ومتواصلة ترفق بالجاهل وترشد الحيران، وتجيب عن أسئلة المنبهر بأنوار الحضارة القادمة!
mhoshan2000@hotmail.com