الجميع يعرف تمتع المملكة العربية السعودية بخصوصية فريدة بين بلاد العالم الإسلامي ودوله. وهي خصوصية دينية، تجعل لها وضعا مميزا بين الدول الإسلامية، وتفرض عليها التزامات خاصة تجاه مسلمي العالم؛ فعلى أرض المملكة يوجد الحرمان الشريفان: الحرم المكي والحرم النبوي.
والبيت الحرام هو أول بيت وضع للناس لعبادة الله عز وجل، رفع قواعده إبراهيم وابنه إسماعيل عليهما السلام، كما قال جل ذكره: {فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَّقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِناً وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ الله غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} (آل عمران: 96 - 97).
وزيارة الحجاج والمعتمرين إلى بيت الله مكة، التي سماها الله (أم القرى) هي فرصة العمر، والعبادة فيها تعطي الشعور بعظمة الخالق جل وعلا. من المعروف أن بدء السكنى بمكة المكرمة يرجع إلى أيام سيدنا إبراهيم وابنه إسماعيل عليهما السلام، وهذا يعني القرن التاسع عشر قبل الميلاد. قال تعالى في سورة إبراهيم آية 37) {رَّبنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُواْ الصَّلاَةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُم مِّنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ}.
وقد استجاب الله عز وجل دعاء سيدنا إبراهيم عليه السلام؛ فعندما نفد ما كان لدى إسماعيل عليه السلام ووالدته هاجر من زاد وماء، تفجر ماء زمزم من تحت قدمي إسماعيل عليه السلام، ووفدت القبائل إلى مكان الماء. ولا شك أن ظهور الرسول -صلى الله عليه وسلم- فيما بعد كان له أكبر الأثر في تغير الحياة في مكة المكرمة والمدينة المنورة وفي العالم.
وقد ظل البيت الحرام تحيط به البيوت من جميع الاتجاهات إلى عهد الرسول -صلى الله عليه وسلم-، ثم بدأت الزيادات والتوسعات. وفي العصر الحديث كان في مقدمة اهتمامات الملك عبدالعزيز -يرحمه الله- شئون الحرمين الشريفين حيث أذاع يرحمه الله بياناً في عام (1368هـ) يبشر المسلمين باعتزامه توسعة الحرمين الشريفين، وبدأ بالحرم النبوي الشريف.
وفي عام (1375هـ) بدأ العمل في توسعة المسجد الحرام والذي يعرف بالتوسعة السعودية الأولى، وكان ذلك في عهد الملك سعود بن عبدالعزيز آل سعود -يرحمه الله-، ثم بدأت توسعة جديدة في عهد الملك فهد بن عبدالعزيز آل سعود -رحمه الله- لتوسعة المسجد الحرام المبارك أقصى توسعة ممكنة، وذلك لرفع طاقته الاستيعابية إلى أكبر حد ممكن، وذلك لتوفير مزيد من الأماكن للصلاة في المسجد أو فيما حوله من الساحات. وقد بلغت مساحة الإضافة (76.000) متر مربع وتناولت توسعة المسجد الحرام من الناحية الغربية من (السوق الصغير) باب العمرة وباب الملك مما يستوعب حوالي (140.000) مصلٍّ، في الطابق الأرضي والعلوي والسطح، وفي وقتنا الحاضر أمر خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله -حفظه الله- بتوسعة عظيمة لم تشهدها مكة المكرمة من قبل.
أما المدينة المنورة، فعن ابن عباس -رضي الله عنه- أنه سمع النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول: (اللهم إني حرمت المدينة بما حرمت به مكة). وكانت المدينة في القديم مجموعة قرى صغيرة تتوزع بين المزارع والجبال والأودية والحرار الممتدة من جبل أحد شمالاً إلى أقصى قربان جنوباً، ومن حرة واقم (الحرة الشرقية) شرقاً إلى طرف العقيق غرباً، ولم يكن لها سور يجمعها ويحميها، وكان أهلها يتحصنون في بيوت منيعة تسمَّى (الآطام) وفي حصون صغيرة.
وفي العهد النبوي ظهرت وسط هذه المجموعات السكنية مجموعة جديدة مركزها المسجد النبوي ما لبثت أن صارت المنطقة الرئيسية وكثر حولها العمران العشوائي.
ولوجود المسجد النبوي فيها جعل موقعها ثابتاً، وجعل الأحياء والمساكن تتوزع حوله في حلقات متوالية، وفي الحدود التي حدها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهي: جبل عير جنوباً، وجبل ثور شمالاً.
وفي يومنا الحاضر اكتظت كل من مكة المكرمة والمدينة المنورة بالسكان، وكثرت السيارات، وأصبحت المدينتان مزدحمتين مرورياً، وكثر التلوث البيئي، و... و... و... ويعود ذلك إلى النشاط البشري المتنوع وأصبحت الحياة صعبة فيهما.
وما أقترحه هو الإزالة التدريجية لجميع النشاطات البشرية إلى خارج حدود المدينتين مكة والمدينة، وإعادة تخطيطهما، وجعلهما فقط مكانا للعبادة، ومن عجائب الدنيا بجمالهما، وروعة المكان المحيط بهما، بجانب تخصيصهما، لإقامة سكان المدينتين ومن يخدمون المعتمرين والحجاج ومن يفد إليهما من المعتمرين طوال العام، وللحجاج في وقت الحج، وتجميل المدينتين وإحاطتهما بالحدائق الغناء التي تريح الناظرين.
فلو تم -مثلا- نقل المدن الجامعية والمعاهد إلى القرى القريبة منهما، فتصوروا إخلاء المدينتين من العدد الهائل ممن يرتاد الجامعات من مدرسين وموظفين بسياراتهم وعائلاتهم وأتباعهم من خدم وسائقين، وكذلك نسبة كبيرة من طلاب الجامعة ممن سيقيمون في الإسكان الجامعي، ومن كل نشاط متعلق بالجامعة. كما يتم نقل جميع الأنشطة الصناعية تدريجيا، وكذلك نقل الكثير من أسواق التسوق التجارية إلى مناطق قريبة على الطرق السريعة شمالا وشرقا وجنوبا وغربا وإنشاء حدائق وملاعب للأطفال ومطاعم حولها بحيث تصبح أماكن للتنزه والتبضع. كما سيتم تنمية كل قرية تحيط بالحرمين الشريفين تنمية شاملة بحيث سيكون فيها نشاط صناعي وتجاري معين يتلاءم مع موقعها وطبيعتها.
وسيتم ربطها بطرق عصرية وقطارات و(مترو) سريعة تنقل الحشود البشرية بيسر وسهولة من وإلى المدينتين من سائر المناطق.
كما لا تنسوا نقل الدوائر الحكومية التي تشغل حيزا كبيرا إلى خارج حدود المدينتين أيضاً في مجمع واحد بالقرب من أحد محطات القطار أو المترو، لسهولة المراجعة من قبل المواطنين.
ولنبدأ بمنع إعطاء تصاريح لمزاولة الصناعة أو التجارة في المدينتين وتوجيه طالبيها إلى إنشائها خارج حدود المدينتين.
فكروا بعمق -وأكرر من فضلكم- فكروا بعمق في المستقبل في الألف سنة القادمة وبقية العمر، الحجاج والمعتمرون يأتون إلى المدينتين المقدستين العصريتين ليروا الحرمين الشريفين، تحيط بهما الحدائق من كل مكان، الهواء نقي غير ملوث، الخدمات متكاملة من ماء وكهرباء وغيرهما، ليس هناك ازدحام مروري، ليس هناك بناء عشوائي، أي ليس هناك ما يكدر راحة سكانها الوافدين إليها من حجاج ومعتمرين، ستقل الأمراض فيهما نتيجة قلة التلوث، وغير ذلك من الفوائد التي سنجنيها.
فهل سيتم تطوير المدينتين تطويراً شاملاً مثل ما يتم حالياً من تطوير للحرمين الشريفين؛ ليقال إنه في هذا العهد المبارك تم ما لم يتم في جميع العصور، وأصبحت مكة المكرمة والمدينة المنورة للطائفين والعاكفين والركع السجود.
وتذكروا قوله تعالى: (وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَن طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ)(125) سورة البقرة.
عضو مجلس الشورى
للتواصل مع الكاتب: إما: ص.ب. 90199 الرمز البريدي 11613 الرياض
أو aazk09@gmail.com