رغم كل الاهتمام الرسمي والإعلامي بتجارة العقاقير غير المشروعة في مختلف أنحاء العالم، فإن عامة الناس لا يتمتعون إلا بقدر ضئيل من الوعي فيما يتصل بهذه المشكلة الخطيرة التي تؤثر على إنتاج، واختبار، وبيع النوع القانوني من العقاقير: الأدوية التي نتعاطاها لعلاج كل شيء، من الأيدز إلى الحمى الصفراء.
إن تطوير وإنتاج العقاقير الجديدة عملية معقدة ومطولة.. فالأمر يبدأ بفكرة ثم يتطلب مجموعة واسعة من المهارات اللازمة لتحويل الفكرة إلى واقع: توليف أو استخراج جزيئات معقدة، وإثبات تأثيرها العلاجي من خلال مزارع الخلايا واختبارها على الحيوانات، ثم اختبار سميتها ودراستها سريرياً.
وعلى طول هذا الطريق، يتم سحب العديد من العقاقير المحتملة، وحتى العقاقير التي تجتاز الاختبارات فإنها تواجه العقبة الإضافية المتمثلة في الحصول على موافقة الجهات التنظيمية.. وأخيراً، يصل العقار الجديد إلى السوق، حيث لا بد من متابعته عن كثب، وذلك لأن العديد من ردود الفعل السلبية لا يمكن اكتشافها إلا بعد استخدامها من قِبَل عدد كبير من المرضى وبعد سنوات من الاستخدام.
هناك عدة آلاف من العقاقير مطروحة الآن في السوق، وتبلغ قيمتها على مستوى العالم حوالي 3 تريليونات دولار أمريكي.. ولكن الظروف التي تحيط بسوق العقاقير بعيدة كل البعد عن المثالية.. ففي الأحوال النموذجية ينبغي أن تكون نسبة المجازفة إلى المنفعة لصالح العقار الجديد.. ومقارنة بالعقاقير الأخرى التي لها نفس دواعي الاستعمال، فإن العقاقير الجديدة لا بد وأن تُختار على أساس سلامتها، وفعاليتها، وتكلفتها.. ولكن المصالح المالية تميل إلى تشويه العملية من خلال خلق الحوافز إلى المبالغة في تقدير فوائد العقاقير الجديدة، والتهوين من المخاطر المترتبة على استعمالها، وفي المقام الأول تعزيز معدلات وصفها للمرضى.
ماذا يتعيَّن علينا أن نفعل إذن؟ أولاً، لا بد وأن تقدم العقاقير الجديدة قيمة مضافة في كل الأحوال - كفاءة أفضل، أو سمية أقل، أو سهولة أعظم في الاستعمال.. ولكن من المؤسف أن التشريعات الحالية لا تشترط هذه المتطلبات في أوروبا، حيث يكفي إثبات الجودة، والكفاءة، والسلامة، من دون الحاجة إلى إجراء دراسات مقارنة.. وعلى هذا فإن الخطر قائم في أن تكون العقارات الجديدة في الواقع أسوأ من منتجات أخرى مطروحة في السوق بالفعل.
إن العقاقير الجديدة كثيراً ما تختبر في مقابل أدوية وهمية أو أدوية أخرى لا تُشكِّل العلاج الأفضل المتاح، والمقصود من هذا البرهنة على أن العقار الجديد ليس أقل من أي عقار آخر متوفر في السوق.. ولكن من المشكوك فيه أخلاقياً أن نختبر عقاراً ما لإثبات أنه ليس (أدنى من غيره)، وذلك لأننا بذلك نعرض المرضى لمخاطر محتملة، في أفضل الأحوال، من أجل تطوير عقار ليس أفضل من العقاقير المتاحة بالفعل.. والواقع أن الموافقة التي يوقّعها المريض على تجربة العقار لا توفر وصفاً واضحاً لمسألة (اختبار الدونية) هذا، ومن المؤكد أن الافتقار إلى القيمة المضافة يشير إلى أن تطوير العقاقير الجديدة يكون الدافع خلفه في العديد من الحالات تحقيق أهداف تجارية وليس تلبية احتياجات المرضى.
ثانياً: إن تحسين عملية تطوير العقاقير يتطلب المزيد من الشفافية من الهيئات التنظيمية.. ففي الوقت الحاضر، يقوم منتج العقار الجديد بإعداد الملف الكامل الذي يقدمه إلى الهيئة التنظيمية المختصة للحصول على الموافقة؛ ولكن للصالح العام، لا بد وأن يتم إجراء أحد الاختبارات السريرية على الأقل بواسطة هيئة مستقلة غير ساعية إلى الربح.. فضلاً عن ذلك فإن الجهات التنظيمية وحدها لها الحق في فحص الملف، والذي تُعَد محتوياته سرية للغاية.. وإنه لمن غير المقبول ألا يكون للمرضى المشاركين طواعية في الاختبارات السريرية، أو ممثليهم، الحق في الاطلاع على البيانات والمعلومات التي ما كانت لتوجد من دون الاستعانة بهم.
ثالثاً: لا بد من مضاهاة الشروط الأفضل لقبول العقاقير الجديدة بالاستخدام الأفضل للعقاقير، وهو الأمر الذي يتطلب حصول الأطباء الذين يصفون العقار على معلومات أفضل.. واليوم تكون الغلبة للمعلومات المقدمة من جانب صنّاع العقاقير على حساب المعلومات المستقلة.. ونتيجة لهذا فإن بعض العقاقير تستخدم بشكل أكثر تكراراً مما قد نتوقعه من دواعي الاستعمال المعتمدة.. والواقع أن هذا الشكل من أشكال الاستخدام (لأسباب غير واردة في دواعي الاستعمال) يأتي مدعوماً بالدعاية المتواصلة التي لا تستهدف الأطباء فحسب، بل وتستهدف الجمهور أيضاً وبشكل مباشر.
إن المعلومات المباشرة ولكنها غامضة تميل إلى إحداث نوع من الترويج للمرض خلق أمراض مفتعلة بهدف تعزيز وصف العقاقير.. على سبيل المثال، قد يتسبب مفهوم (مرحلة ما قبل ارتفاع ضغط الدم) إلى التوسع في استخدام العقاقير المضادة لارتفاع ضغط الدم بشكل كبير، وذلك لأن ضغط الدم يرتفع لدى الجميع مع التقدم في السن.. وعلى نحو مماثل، سنجد أن الفكرة الشائعة بأن مستوى الكولسترول في الدم لا بد وأن يكون عند أدنى مستوى ممكن تفتح الطريق أمام علاج أشخاص أصحاء وعقاقير مضادة لارتفاع مستويات الكولسترول في الدم.. من الواضح أن السلطات الصحية لا بد وأن تفرض رقابة أكثر إحكاماً على المعلومات بأن تتولى قدراً أعظم من المسؤولية عن التعليم المستمر للأطباء.
إذا كانت الشروط الواجبة للموافقة على تسويق العقاقير أكثر تشدداً، فسوف تضطر شركات الأدوية إلى إنتاج عدد أقل من العقاقير المماثلة لعقاقير أخرى متاحة في السوق بالفعل، وسوف تتجه إلى إنتاج المزيد من العقاقير ذات الأهمية السريرية.. فضلاً عن ذلك فإن التكاليف المترتبة على اشتراط فترات اختبار أطول، وربما الاستعانة بموارد إضافية، من الممكن التعويض عنها بفضل استمرار العقاقير الجديدة في السوق لمدة أطول، ومن الممكن أيضاً تمديد فترة تغطية براءات الاختراع.
وأخيراً، لا بد من إيجاد الحوافز من أجل تشجيع شركات الأدوية على إنتاج العقاقير التي تلبي احتياجات المرضى الذين ما زالوا في انتظار العلاج.. فهناك أكثر من ستة آلاف مرض نادر ومهمل - العديد منها في البلدان النامية - يفتقر إلى العلاجات اللازمة.. والتحدي هنا يتمثَّل في كيفية إنتاج عقاقير جديدة ذات عائد مالي محدود للغاية لأن المرضى المحتاجين لهذه العقاقير إما نادرون أو فقراء للغاية.
لعل الشراكة بين الحكومات، والمؤسسات البحثية غير الساعية إلى الربح، والجمعيات الخيرية، وشركات الأدوية، تكون من بين السبل اللازمة لتطهير عملية الموافقة على العقاقير الجديدة.. وإذا نجح الوعي العام بالمشاكل الحالية في تحفيز الساسة إلى إيجاد الحلول الناجحة، فسوف يكون بوسعنا تحقيق هدف إنتاج عقاقير أفضل واستخدام هذه العقاقير بصورة أفضل.
***
سيلفيو جاراتيني مدير معهد ماريو نِجري للبحوث الدوائية في ميلانو.
حقوق النشر: بروجيكت سنديكيت، 2009.
خاص «الجزيرة»