Al Jazirah NewsPaper Sunday  01/11/2009 G Issue 13548
الأحد 13 ذو القعدة 1430   العدد  13548
جاهلية الجماعات التكفيرية
د. عبد الوهاب بن منصور الشقحاء

 

في جواب لفضيلة الشيخ عبد الله بن جبرين - رحمه الله - عن الموقف من جماعة الإخوان المسلمين قال: (إن لكل جماعة وطائفة تعمل بالسنة وتدعو إلى الشريعة وتأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر وتتجنب المحرمات والبدع والمحدثات فإننا نواليهم ونحبهم وإذا كان معهم شيء من النقص أو المخالفة ننصحهم ونحذرهم

من مخالفة الشريعة فيدخل في ذلك الإخوان المسلمون الذين يقومون بالدعوة إلى الله تعالى وينصحون المسلمين ويبينون الخير لمن صحبهم، فإن كانوا يطوفون بالقبور أو يدعون الأموات أو يسبون الصحابة أو يخرجون على الأئمة المسلمين أو يكفّرون بالذنوب فإننا نحذرهم وننصح عن صحبتهم إذا لم يقبلوا النصيحة ولم يتركوا مخالفة الشريعة)، رجعت إلى هذه الفتوى وأنا أستعرض كتاب سيد قطب الموصوم ب(جاهلية القرن العشرين) الذي ينعى فيه المجتمع المسلم ويطالب بالخروج على الدولة، والهجرة من المجتمع وتكفير الأمة وإحالة دار الإسلام إلى دار حرب ورفض المجتمعات القائمة اليوم بحجة أن الإسلام قد تم عزله وإقصاؤه عن الواقع وأن الأمة كلها تعيش حياة ملؤها الضلال والكفر، وأن التشريعات التي تضعها الدول إنما هي مُحاربة لله وانتزاع لاختصاص الله بالتشريع وأن من يقوم بذلك فقد جعل لله نداً وخرج عن سلطانه وفي هذا غياب لحاكمية الله وهذا ما ذهب إليه أبو الأعلى المودودي 1903 - 1979ه قبل سيد قطب إذ هو صاحب مفهوم (الجاهلية الجديدة) و(الحاكمية لله) وهي مستنسخة من فكر الخوارج الأوائل الذين يقولون (لا حكم إلا لله) ويستشهدون بآية: (إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلّهِ) يوسف الآية 45.

والتي قال عنها ابن عباس رضي الله عنهما (كلمة حق أريد بها باطل) وقد انساق وراء هذه الرؤية المتطرفة عدة جماعات انشقت عن جماعاتها المعتدلة في السبعينيات وبداية الثمانينيات من القرن الماضي مثل جماعة (التكفير والهجرة) و(الجهاد) وغيرهما ثم ظهرت عدة شخصيات مصرية وسورية تدعو إلى هذا الفكر المتطرف عندما أتيحت لهم فرصة الملاذ الآمن، وذلك بعد هروبهم من أنظمة الحكم في بلادهم وقابلوا الإحسان بالإساءة وحاول هؤلاء الجمع بين مسألة الحاكمية ومسألة الولاء والبراء مما يتيح شحن شباب الأمة قليلي الثقافة الشرعية ضد حكوماتهم وضد ما يطلقون عليه ب(الآخر) سواء كان مسلماً أو غير مسلم ووجوب قتاله حتى يتم تشكيل المجتمع المسلم بالصورة التي لا توجد إلا في أذهانهم المتشنجة، وقد أثارت هذه الدعوة المتطرفة ردوداً عديدة تبين خطأها وخروجها عن منهج أهل السنة والجماعة منهج السلف الصالح، وكان من أجمع وأشمل ما اطلعت عليه في الرد على الفكر التكفيري للأمة والمجتمع ونقض فكرة الحاكمية هو ما ألفه حسن الهضيبي المرشد الثاني للإخوان المسلمين في كتابه (دعاة لا قضاة) رداً على ما جاء في كتاب سيد قطب (جاهلية القرن العشرين) وتلخص رده بما يلي:

أولاً: حكم الناطق بالشهادتين (أن نعده مسلماً تجري عليه أحكام المسلمين، وليس لنا في مدى صدق شهادته إذ إن ذلك أمر لا سبيل للكشف عنه والتثبت فيه، وان حكم الله أن يعد الشخص مسلماً في اللحظة ذاتها التي ينطق فيها بالشهادتين، ولا يشترط أن تكون أعمال الشخص مصدقة لشهادته حتى يحكم بإسلامه، وأنه في حال نطقه بالشهادتين يلزمنا اعتباره مسلماً ويحرم علينا دمه وماله..) وأضاف: (من تعدى ذلك إلى القول بفساد عقيدة الناس بما يخرجهم من الإسلام قلنا له إنك أنت الذي خرجت عن حكم الله بحكمك هذا الذي حكمت به على عموم الناس).

ثانياً: وحول شيوع المعاصي كدليل على أن المجتمع الحالي جاهلي وكافر قال: (ليست المعالنة بالمعاصي وشيوعها، وليست الظواهر العامة التي ركن إليها دعاة التكفير مما يجيز لهم شرعاً أن يصدروا حكماً على عموم الناس بخروجهم من الإسلام إلى الكفر أو بعدم دخولهم في الإسلام أصلاً على الرغم من النطق بالشهادتين).

ثالثاً: وحول مصطلح الحاكمية يقول الهضيبي: (.. إنه لم يرد بأي آية من الذكر الحكيم ولا في أي حديث، والغالبية التي تنطق بالمصطلح وهي لا تكاد تعرف من حقيقة مراد واضعيه إلا عبارات مبهمة سمعتها عفواً هنا وهناك أو ألقاها إليهم من لا يحسن الفهم ويجيد النقل والتعبير.. وهكذا يجعل بعض الناس أساساً لمعتقدهم مصطلحاً لم يرد له نص من كتاب الله أو سنة رسوله.. أساساً من كلام بشر غير معصومين وارد عليهم الخطأ والوهم، وعلمهم بما قالوا في الأغلب الأعم مغلوط).

رابعاً: وحول مسألة اختصاص الله بالتشريع وأن من وضع تشريعاً فقد انتزع لنفسه إحدى صفات الله وجعل نفسه نداً لله تعالى خارجاً على سلطانه، قال: (إن الحكم لله وحده صاحب الأمر والنهي دون سواه، هذه عقيدتنا.. لكن الله عز وجل قد ترك لنا كثيراً من أمور دنيانا ننظمها حسبما تهدينا إليه عقولنا في إطار مقاصد عامة وغايات حددها لنا سبحانه وتعالى وأمرنا بتحقيقها بشرط ألا نحل حراماً أو نحرم حلالاً، ذلك أن الأفعال في الشريعة إما فرض أو حرام أو مباح.. ولا يجوز لأحد أن يزعم أن تشريعات تنظيم المرور هي من تشريع الله عز وجل).

خامساً: ولمن ربط أو اشترط (إسلام) الشخص بضرورة استيعابه لمعنى الشهادتين قال الهضيبي: (إن المسلمين في عهد الصحابة والتابعين فتحوا بلاد الفرس والبربر والترك والهند والأندلس وأجزاء من البلقان وكلها شعوب لم تكن تعرف العربية، وكان إجماع الصحابة والكافة على قبولهم الإسلام بشهادة (ان لا إله إلا الله) وعصمت بها دماؤهم وأموالهم دون أن يطالبوا بشيء مما أتى به المودودي وغيره).. واستدل بالحديث النبوي: (أُمرتُ أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله..) وإلى عتاب النبي صلى الله عليه وسلم لأسامة بن زيد عندما قتل مشركاً نطق بالشهادتين ظناً منه أن أراد بذلك أن يفلت من القتل، حيث قال النبي صلى الله عليه وسلم: هلا شققت على قلبه؟.. ما تصنع ب(لا إله إلا الله)؟ وعدَّ الهضيبي بعد استعراض أحاديث وآيات عديدة أن اشتراط استيعاب معنى الشهادة لاعتبار المسلم مسلماً شرط زائد وقال: (إن من أحدث تلك التفرقة وأتى بذلك الشرط الزائد فقد خالف نص حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، واليقين الثابت من عمله والمعتبر شريعة بلا خلاف، وأتى بشريعة غير شريعة الله مستحدثاً في الدين ما لم يرد فيه نص من كتاب أو سنة). ولمن يعد أن المرء يخرج من الإسلام إذا لم يكن عمله مصدقاً لشهادته - وهو ما يراه المودودي وسيد قطب ومن تبعهما - قال الهضيبي: (نقول للذي اشترط أن تكون أعمال الشخص مصدقة لشهادته حتى يحكم بإسلامه: إن فيما قدمناه يثبت فساد ذلك القول، فقد أقمنا الأدلة القاطعة على أن حكم الله تعالى يعد الشخص مسلماً في ذات اللحظة التي ينطق فيها بالشهادتين، وأنه في حال نطقه بالشهادتين يلزمنا اعتباره مسلماً ويحرم علينا دمه وماله، فمن أين جاء الشرط الذي يفرض وجوب عمل ما وتعليق حكم إسلام من نطق بالشهادتين، حتى يأتي بعمل يعد مصدِّقاً لشهادته؟. واستشهد الهضيبي بما جرى وقت احتضار أبي طالب في فراش الموت، عندما جلس الرسول صلى الله عليه وسلم إلى جواره يُلحُّ عليه في أن ينطق بالشهادتين، ثم تساءل: ما جدوى هذه الشهادة وقيمتها، وما الداعي لأن يطلبها الرسول صلى الله عليه وسلم من عمه إن كانت بذاتها لا تُخرج قائلها من الكفر وتدخل به في الإسلام؟.

سادساً: ويُرفضُ الحكم على الناس بالمظاهر، وخصوصاً فيما يتعلق بواقع حياة الناس الذين ينهجون في حياتهم الاجتماعية والاقتصادية والسياسية مناهج تخالف شريعة الله، فيقول: (قد يكون الكثيرون منهم عاصين لأوامر الله، ولكن من تعدى ذلك إلى القول بفساد عقيدة الناس بما أخرجهم عن الإسلام قلنا له إنك أنت الذي خرجت على حكم الله بحكمك هذا الذي حكمت به على عموم الناس، وإن استدلالك على فساد عقيدة الناس بما يخرجهم عن الإسلام ظن لا يرقى إلى الجزم اليقين لا نكفّر مسلماً بمعصية).

وفي الختام فإنه قد يُلتمس العذر لأبي الأعلى المودودي في تبين هذه الايديولوجية المتطرفة بشكل مؤقت بسبب أنه كان يناضل الاستعمار الإنجليزي للهند ولما يعانيه من عقدة الاضطهاد التي عاشها المسلمون في الهند وراح ضحيتها الآلاف منهم على أيدي الهنود الهندوسيين بين عامي 1945-1950م حتى تحقق لهم الانفصال عن الهند في الدولة الجديدة باكستان كذلك لكونه لا يجيد اللغة العربية ولم يكتب بها أو يؤلف فيها ولم تترجم مؤلفاته إلى العربية إلا في بداية الخمسينيات من القرن الميلادي الماضي، على أنه بعد أن أسس حركته المسماة (الجماعة الإسلامية) وتأسست دولة باكستان تراجع عن بعض أفكاره ليقول: (إن المجتمع الإسلامي مزيج من الإسلام والجاهلية وليس جاهلية خالصة)، وهو يعبر بذلك عن واقعه في الهند إلا أن سيد قطب كان قبل اعتناقه لأفكار المودودي من المحسوبين على الوسط الليبرالي في مصر هو والعقاد وطه حسين وعلي عبدالرزاق ومن الذين يرون ضرورة محاكاة الغرب وكان لعباس محمود العقاد دور مرجعي في حياة قطب السياسية والفكرية، وكان قطب من أبرز المدافعين عن العقاد الذي يرى أن النمط الغربي الليبرالي نموذج للمستقبل المنشود، وقد برزت التوجهات الليبرالية في فكر سيد قطب من خلال كتاباته الأولى وأبرزها قصة (أشواك) وهي قصة حب نشرها عام 1933م أهداها إلى حبيبته، كما تم إيفاد سيد قطب من قِبل الحكومة المصرية إلى الولايات المتحدة الأمريكية عام 1948م لدراسة المناهج الحديثة للتعليم وعاد منها عام 1951م على أنه لا يُستغرب أن ينضم للجماعات المتطرفة ويتبنى أفكارها فئام من شباب الدول التي عانت من الاستعمار الأجنبي وهالها ما تحولت إليه بعض مجتمعاتها من تفسخ خلقي وتغريب في مناهجها التعليمية التي قد تخلو من العلوم الشرعية بينما لا يُعذر في تبني هذه الأفكار التكفيرية من يعيش في مجتمع إسلامي بحت كالمملكة العربية السعودية التي تُبنى أحكام دولتها على الكتاب والسنة شريعةً ومنهاجاً وتضم في جنباتها الحرمين الشريفين والجامعات الإسلامية ومدارس تحفيظ القرآن الكريم وعلومه وذلك نتيجة غواية أناسٍ حملت أفكارهم أهدافاً سياسية لا دينية وراعهم ما قامت عليه هذه البلاد من لحمة وطنيةٍ وشرعيةٍ بين الحاكم والمحكوم قوامها أحكام الشريعة الإسلامية الخالصة من الشوائب العقدية والفكرية.



dr-a-shagha@hotmail.com

 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد