إنَّ محاولة جادة للعناية بجوهر الإنسان لا بد أن تنبع من الاهتمام بإصلاح القلب؛ لأنه هو الأساس بالنسبة إلى الإنسان. وصلاح أحوال الإنسان يرتبط ارتباطاً وثيقاً بصلاح القلب، وأيضاً فساد الأحوال له ارتباط وثيق بفساد القلب؛ لأن للقلب مكانة عظيمة بالنسبة إلى الإنسان؛ فهو نقطة الانطلاق في الأعمال التي يقوم بها الإنسان، وهو كما يقال ملك الأعضاء، به قوام الروح، ومحل نظر الله تعالى، وجميع الأعضاء الظاهرة والباطنة وقواها إنما هي جند من أجناد القلب.
وفي ذلك يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب)، وقال أبو هريرة رضي الله عنه: (القلب ملك، والأعضاء جنوده، فإن طاب الملك طابت جنوده، وإن خبث الملك خبثت جنوده).
والقلب السليم هو الذي سلم من كل شهوة تخالف أمر الله ونهيه، ومن كل شبهة تعارض خبره، فسلم من عبودية ما سواه، وسلم من تحكيم غير رسوله، وسلم من محبة غير الله معه، ومن خوفه ورجائه والتوكل عليه، والإنابة إليه، والذل له، وإيثار مرضاته في كل حال والتباعد من سخطه بكل طريق، وهذا هو حقيقة العبودية التي لا تصلح إلا لله سبحانه وتعالى وحده.
إنَّ القلب ما سُمِّي بذلك إلا لكثرة تقلبه من حال إلى حال، وهو كما وصفه الرسول صلى الله عليه وسلم: (مثل القلب مثل الريشة، تقلبها الرياح بفلاة).
فهنا يصوِّر النبي - صلى الله عليه وسلم - القلب وكأنه ريشة، لخفته ولتأثير الفتن عليه، صغيرها وكبيرها.
قال تعالى: (الَّذِينَ آمَنُواْ وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللّهِ أَلاَ بِذِكْرِ اللّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ) يقول الإمام ابن القيم رحمه الله: (الطمأنينة سكون القلب إلى الشيء، وعدم اضطرابه، فإن القلب لا يطمئن إلا بالإيمان واليقين، ولا سبيل إلى حصول الإيمان واليقين إلا من القرآن، فإن سكون القلب وطمأنينته من يقينه، واضطرابه وقلقه من شكه).
وتحدَّث القرآن الكريم عن القلب السليم: {يَوْمَ لَا يَنفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ)، وقال تعالى: (مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَن بِالْغَيْبِ وَجَاء بِقَلْبٍ مُّنِيبٍ).
قال القرطبي: (مقبل على الطاعة)، وقال الإمام ابن القيم: (وحقيقة الإنابة عكوف القلب على طاعة الله ومحبته والإقبال عليه)، وقد تحدَّث القرآن الكريم عن القلوب وأنواعها، من حيث القرب من الله وخشيته والوجل والإنابة إليه، ومن حيث البُعد عنه سبحانه، وعدم الانتفاع بشرع الله، وكأنها معطلة عن القيام بمهامها الإيمانية، والقلب الصحيح: يؤثر النافع الشافي على الضار المؤذي، والقلب المريض ضد ذلك. وأنفع الأغذية غذاء الإيمان، وأنفع الأدوية دواء القرآن.
ومن علامات صحة القلب أنه لا يزال يضرب على صاحبه، حتى ينيب إلى الله تعالى، ويخبت إليه فيكون ذكره قوته، وغذاؤه محبته، والشوق إليه حياته ونعيمه، ولذته وسروره. ومن علامات صحة القلب ألا يفتر عن ذكر الله، ولا يسأم من خدمته، ولا يأنس بغيره.. والقلب الصحيح هو الذي همه كله في الله، وحبه كله وقصده له، وكل أعماله لله، والقلب الذي يمرض بسبب بعده عن الله تعالى، وتعلقه بغيره والمعاصي، وغير ذلك مما يؤثر على صفاء القلب ونقاوته وسلامته.
لذا فإن محاسبة النفس من الأمور التي تساعد على سلامة القلب، فعن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - أنه قال: (حاسبوا أنفسكم قبل أن تُحاسبوا، وزنوا أعمالكم قبل أن توزنوا، فإنه أهون عليكم في الحساب غداً أن تحاسبوا أنفسكم اليوم، وتزينوا للعرض الأكبر، يومئذ تعرضون لا تخفى منكم خافية).
وعن الحسن رحمه الله قال: (لا تلقى المؤمن وهو يحاسب نفسه، ما أردت بكلمتي، ما أردت بأكلتي، ما أردت بشربتي.. والفاجر يمضي قدماً لا يحاسب نفسه).
وخلاصة القول في ذلك: إن من أهم الأمور التي يجب أن يعنى بها المؤمن بصفة عامة، ومعلم التربية الإسلامية بصفة خاصة، سلامة القلب، وخلوه من كل ما يبعده عن الله تعالى؛ نظراً إلى أن للقلب مكانة عظيمة وخطيرة بالنسبة إلى الإنسان، فإن صلح القلب وكان سليماً وعامراً بالعقيدة الصحيحة ومحبة شرع الله، والتعلق بالخالق سبحانه استقامت أعضاء الإنسان، وصلحت أعماله، وبالتالي تعظم إيجابيات القلب، أما إذا أصيب القلب ببعض الأمور التي تفسده، وتبعده عن الله تعالى، كان خطره كبيراً؛ لأن ذلك ينعكس انعكاساً سلبياً على سلوكيات الإنسان، ومن ثمّ وجب على معلّم التربية الإسلامية أن يُعنى بسلامة جوهره من خلال عنايته بقلبه، وحرصه على أن يكون موصولاً بالله تعالى.
ولا شك أن هذه المعاني الإيمانية لها أهميتها بالنسبة إلى كل مؤمن، ولاسيما معلم التربية الإسلامية، الذي يعدُّ في مقام القدوة لطلابه، ولأفراد المجتمع، خاصة أنه إذا استقام القلب استقامت أعضاء الإنسان.
* الأستاذ المشارك بجامعة الملك سعود