Al Jazirah NewsPaper Friday  30/10/2009 G Issue 13546
الجمعة 11 ذو القعدة 1430   العدد  13546

أعذبُ الشعر أكذبُه

 

هذا قول مأثور يتمثل بوضوح في أبيات من الشعر العربي في مختلف العصور منها:

- خُلقتُ من الحديد أشدّ بأساً

وقد بليَ الحديدُ وما بليتُ

- ما شئتَ لا ما شاءت الأقدار

فاحكم فأنت الواحد القهّار

- ونحن أناس لا توسط بيننا

لنا الصدر دون العالمين أو القبر

- وأخفت أهل الشرك حتى أنه

لتخافك النطفُ التي لم تخلق

- وكل ما خلق الله وما لم يخلق

محتقر في همتي كشعرة في مفرقي

- بيض صنائعنا خضر مرابعنا

سود وقائعنا حُمر مواضينا

- إذا بلغ الفطام لنا رضيع

تخر له الجبابر ساجدينا

- ونشرب إن وردنا الماء صفواً

ويشرب غيرُنا كدراً وطينا

- وإني لمن قوم كأن نفوسهم

بها أنف أن تسكن اللحم والعظما

- معللتي بالوصل والموت دونه

إذا مت ظمآناً فلا نزل القطر

- وآستبدّت مرة واحدة

إنما العاجز من لا يستبد

- وعلمنا بناء المجد حتى

أخذنا إمرة الأرض اغتصابا

- وما نيل المطالب بالتمني

ولكن تؤخذ الدنيا غِلابا

أنا لا أعرف شعراً في الآداب العالمية كلها له هذه النكهة العنترية الصاخبة، والنبرة العدوانية العالية، وفيه هذا المقدار الكبير من الألفاظ الحادة، والمعاني المتوحشة، والأغراض المخيفة، التي رأيناها مجتمعة في الأبيات السابقة.

ولم ينظم أحد - فيما أعلم - مثل هذا الشعر في الآداب العريقة كالأدب الإنجليزي أو الفرنسي أو الألماني أو الإيطالي أو الإسباني أو اليوناني أو الروسي أو الأوروبي أو الصيني، ولا في الأدب العبري أيضاً، على الرغم من أن الإسرائيليين قد انتصروا على دولنا في جميع الحروب، وأن العرب واليهود ساميون ينتمون إلى أصل واحد؛ فسبحان خالق الأمزجة المتفاوتة، وقاسمها وموزّعها على خلقه المختلفين.

والغريب أن النقاد العرب وسمُوا هذا الشعر ونحوه بقولهم (أعذب الشعر أكذبه)، فاستعملوا صيغتي أفعل للدلالة على التفضيل، ولم يكفهم القول: (عذبُ الشعر كاذبُه) بصيغتي الصفة المشبهة واسم الفاعل العاديتين.

وإذا كان هذا الشعر الأكذب هو الأعذب فماذا عسانا نسمي الشعر الرائع فعلاً والصادق حقاً كقول علي بن أبي طالب:

لا دار للمرء بعد الموت يسكنها

إلا إذا كان قبل الموت يبنيها

فإن بناها بخير طاب مسكنه

وإن بناها بشرّ خاب بانيها

أموالنا لذوي الميراث نجمعُها

ودورُنا لخراب الدهر نبنيها

كم من مدائن في الآفاق قد بُنيتْ

أمستْ خراباً وأفنى الموتُ أهليها

لا تركننّ إلى الدنيا وزخرفها

الموت لا شك يُفنينا ويُفنيها

وقوله أيضاً:

قدّم لنفسك في الحياة تزوّداً

فلقد تفارقها وأنت مودّع

واهتم للسفر القريب فإنه

أنأى من السفر البعيد وأشنع

واجعل تزودك المخافة والتّقى

فلعلّ حتفك في مسائك أسرعُ

واقنع بقوتك فالقناع هو الغنى

والفقر مقرون بمن لا يقنع

واحذر مصاحبة اللئام فإنهم

منعُوك صفو ودادهم وتصنعوا

وقوله أيضاً:

عليك ببرّ الوالدين كليهما

وبرّ ذوي القربى وبرّ الأباعد

ولا تصحبن إلا تقياً مهذباً

عفيفاً ذكياً منجزاً للمواعد

ونافس ببذل المال في طلب العلا

بهمة محمود الخلائق ماجد

وقوله أيضاً:

يغطي عيوبَ المرء كثرةُ ماله

يُصدَّق فيما قال وهو كذوب

ويُزري بعقل المرء قلةُ ماله

يحمّقه الأقوام وهو لبيب

وقول أبي الأسود الدّؤلي:

حسدوا الفتى إذ لم ينالوا سعيه

فالقوم أعداء له وخصوم

وترى اللبيب محسداً لم يجترم

شتم الرجال وعرضه مشتوم

وكذاك مَن عظمت عليه نعمة

حُساده سيف عليه صرُوم

فلترك مجاراة السفيه فإنها

ندم وغبّ بعد ذاك وخيم

فإذا جريت مع السفيه كما جرى

فكلاكما في جريه مذموم

وإذا عتبت على السفيه ولمته

في مثل ما تأتي فأنت ظلوم

يا أيها الرجل المعلّم غيره

هلا لنفسك كان ذا التعليم

وقول دريد بن الصّمة:

لقد أسمعت لو ناديت حيّاً

ولكن لا حياة لمن تنادي

ولو نار نفخت بها أضاءت

ولكن أنت تنفخ في رماد

وقول حسان بن ثابت:

وإن أشعر بيت أنت قائله

بيت يقال إذا أنشدته صدقا

وقول حاتم الطائي:

أماويُّ إن المال غادٍ ورائح

ويبقى من المال الأحاديث والذكر

أماويّ ما يُغني الثراء عن الفتى

إذا حشرجت يوماً وضاق بها الصدر

وقول المتنبي:

الرأي قبل شجاعة الشجعان

هو أول وهي المحل الثاني

وقوله أيضاً:

إذا ساء فعل المرء ساءت ظنونه

وصدَّق ما يعتاده من توهم

وقوله أيضاً:

على قدر أهل العزم تأتي العزائم

وتأتي على قدر الكرام المكارم

وقول المعرّي:

غير مجد في ملتي واعتقادي

نوحُ باكٍ ولا ترنم شاد

وشبيه صوت النعي إذا قيس

بصوت البشير في كل ناد

صاح هذي قبورنا تملأ الرحب

فأين القبور من عهد عاد

إن حزناً في ساعة الموت

أضعاف سرور في ساعة الميلاد

ضجعة الموت رقدة يستريح الجسم فيها

والعيش مثل السهاد

وقول الأفوه الأودي:

لا يصلح الناس فوضى لا سراة لهم

ولا سراة إذا جهّالهم سادوا

تُهدى الأمور بأهل البيت ما صلحت

وإن تولّت فبالأشرار تنقاد

إذا تولى سراة الناس أمرهمُ

نما على ذاك أمر القوم فازدادوا

وقول الشافعي:

نعيب زماننا والعيب فينا

وما لزماننا عيب سوانا

ونهجو ذا الزمان بغير ذنب

ولو نطق الزمان لنا هجانا

وليس الذئب يأكل لحم ذئب

ويأكل بعضنا بعضاً عيانا

وقول قيس بن الحطيم:

وما بعض الإقامة في ديار

يُهان بها الفتى إلا بلاء

وبعض خلائق الأقوام داء

كداء البطن ليس له دواء

يريد المرء أن يُعطى مُناهُ

ويأبى الله إلا ما يشاء

وكل شديدة نزلت بقوم

سيأتي بعد شدّتها رخاء

ولا يُعطى الحريص غنى لحرص

وقد ينمي على الجود الثراء

غنيّ النفس ما عمرت غنيّ

وفقر النفس ما عمرت شقاء

وليس بنافع ذا البخل مال

ولا مُزْر بصاحبه السخاء

وقول ابن زيدون الأندلسي لحبيبته ولاّدة:

أضحى التنائي بديلاً من تدانينا

وناب عن طيب لقيانا تجافينا

بنتمُ وبنّا فما ابتلت جوانحنا

شوقاً إليكم ولا جفت مآقينا

ليُسق عهدكم عهدُ السرور فما

كنتم لأرواحنا إلا رياحينا

غيظ العدا من تساقينا الهوى فدعوا

بأن نُغصَّ فقال الدهر آمينا

وقول أبي العتاهية:

تعالى الله يا سلم بن عمرو

أذل الحرصُ أعناق الرجال

هب الدنيا تساق إليك عفواً

أليس مصير ذاك إلى زوال

وقول أبي البقاء الرندى:

لكل شيء إذا ما تم نقصان

فلا يغرّ بطيب العيش إنسان

هي الأمور كما شاهدتها دول

من سره زمن ساءته أزمان

ألا نفوس أبيَّات لها همم

أما على الخير أنصار وأعوان

يا من لذلّة قوم بعد عزّهمُ

أحال حالهم جور وطغيان

وقول صفي الدين الحلّي:

لا يمتطي المجد من لم يركب الخطرا

ولا ينال العُلا من قدّم الحذرا

ومن أراد العلا عفواً بلا حذر

قضى ولم يقضِ من إدراكها وطرا

لابد للشهد من نحلٍ يُمنعه

لا يجتني النفع من لم يحمل الضررا

لا يُبلغ السُّؤل إلا بعد مُؤلمةٍ

ولا تتم المنى إلا لمن صبرا

وأحزمُ الناس من لو مات من ظمأ

لا يقرب الورد حتى يعرف الصدرا

وأغزر الناس عقلا من إذا نظرت

عيناه أمراً غدا بالغير معتبرا

فقد يقال عثار الرّجل إن عثرت

ولا يقال عثار الرأي إن عثرا

وقول أبي عبيد البكري:

وأحبب إذا أحببت حُبّاً مقارباً

فإنك لا تدري متى أنت نازع

وأبغض إذا أبغضت بغضاً مقارباً

فإنك لا تدري متى أنت راجع

وقول الخنساء:

إن الجديدين في طول اختلافهما

لا يفسدان ولكن يفسد الناس

وقول علي بن الجهم:

كم من عليل قد تخطاه الردى

فنجا ومات طبيبه والعُوّد

وقول البوصيري في (بردته):

قد تنكر العين ضوء الشمس من رمَد

وينكر الفمُ طعمَ الماء من سقم

وكالأبيات الآتية:

- كم عاقل عاقل أعيت مذاهبه

وجاهل جاهل تلقاه مرزوقا

- واحفظ لسانك لا تقول فتبتلى

إن البلاء موكل بالمنطق

- يمضي أخوك فلا تلقى له خلفاً

والمال بعد ذهاب المال يكتسب

- فلو لم تكن في كفه غير روحه

لجاد بها فليتق الله سائله

مما سبق يتبين أن السمات العنيفة شديدة المبالغة وبالغة التعالي والتفذلك والتفاصح في اللون (الأكذب) من الشعر العربي هي التي تدغدغ النفوس غير السوية بالخيال الفارغ من أي مضمون جدي، وبالشعور الطاغي بالعظمة الجوفاء، وبالتفوق الموهوم، ويبدو أن هذه السمات هي التي حملت الأديب والعالم والمفكر المعروف الشيخ عبدالله القصيمي على تأليف كتابه الشهير (العرب ظاهرة صوتية).

إن ما عرضته في البداية من شعر (المنفخة) الحماسي - كأنموذجات - يتضمن كلاماً كبيراً جداً يقابله فعل متواضع للغاية، وهو كلام يجعلنا نعطي أنفسنا حجماً ضخماً زائفاً ليس لنا، في حين أعطى الأعداء لأنفسهم واقعاً مطابقاً أو مقارباً لإمكاناتهم الحقيقية؛ ولهذا هُزمنا وانتصروا دائماً، وكسلنا ونشطوا باستمرار، وتأخرنا وتقدموا في جميع الأوقات والمجالات.

ومن المؤسف أن تهتم وزارات التربية أو المعارف العربية وأن يهتم المعلمون بناءً على توجيهاتها أشد الاهتمام بتعليم طلابنا هذه القصائد العنترية المليئة بالأنانية المفرطة وبالادعاء الكاذب، وأن يحرصوا على تدريسها لهم أكثر من حرصهم على تلقينهم الشعر الرصين الجميل الجزل الأنيق العميق الممتلئ بحكمة شعرائنا الفحول وبتجاربهم على امتداد العصور وهو كثير جداً في تراثنا الأدبي العظيم، لتفاجأ الأجيال القادمة - كما فوجئ جيلنا - بعد أن تصدمهم الحقائق وتظهر لهم كما هي وليس كما يتوهمون بأن هذا الشعر الخرافي الأجوف الذي درسوه في المدارس وحفظوه عن ظهر قلب وصدقوه ورددوه بفخر واعتزاز، وَهْمٌ في وهم، وتهويل بعيد عن الصدق بُُعد السماء عن الأرض؛ مما قد يؤدي إلى انفصام في الشخصية فضلاً عن خيبة الأمل.

أخيراً أقول: كم كنت أتمنى أن لا أجلد الذات، وأن يكون عنوان مقالي هذا (أعذب الشعر أصدقه) وليس (أعذب الشعر أكذبه)، ولكن - للأسف الشديد - (ما باليد حيلة) كما يقال.

أ. د. عبدالكريم محمد الأسعد

أستاذ سابق في الجامعة


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد