|
|
- 118 صفحة من القطع المتوسط
|
محمود عارف -يرحمه الله- ينتمي إلى رموز جيلنا الذهبي. قدَّم الكثير.. وكتب الكثير.. هنا سأتناوله شاعرا من خلال ديوانه الذي أطل منه على الزمن وخرج من خلال إطلالته بمشاهد وشواهد على الزمن المزمن في حركته وجموده.. بداية في (رحاب الطهر والنور) أشعل قنديله:
|
أسكب اللحنَ في صباح الصباح |
وأشرب العصرَ من ثغور الأقاحي |
رغم أن العطر يُشم.. إلا أن عطشه إليه نهله كما ينهل كأس ماء.. أو قدح لبن..
|
وتحمل في البُعد أشواق قلب |
مستهام. معذب. مسماح |
عرّف هذا الحب.. حب السماء للأرض.. والسماء لا تمطر إلا غيثا.. وربيعا وروحا نقية وروحانية مثلى.. ويلتفت إلى وطنه الكبير مُعرِّفا ومخاطبا:
|
أيها الشرق أنت فجر خيالي |
واقع مشرق مع الإصباحِ |
لو كان حيا لرأى المشهد رمادي الشكل تغلفه غيوم لا تمطر.. وسحاب رعده صواريخ وقنابل تُقبل السنابل، ولكن دون حب
|
(ليلة القدر) وما أدراك ما ليلة القدر إنها يتلمسها يتحسسها بكل مشاعره الإيمانية الجياشة:
|
ليلة القدر لست أدري لماذا |
هي محجوبة عن الأنظار |
هي فجر النهى وشرع الاعجاز |
ونور القلوب والابصار |
لله في حجبها حكمة لا يعملها إلا هو.. ولأنها ليلة مستجابة الدعاء مد شاعرنا الراحل يديه نحو السماء يهتف:
|
رب حقق للمسلمين جميعا |
وعدك الحق بعد طول انتظار |
إنما القدس موطن عربي |
رغم أنف الصهاين الأشرار |
أخشى أن يتحول إلى عبري لا عربي ما دمنا نؤذن في مالطة دون أن يتحرك أحد..
|
يمد شاعرنا نظره إلى الخلف.. إلى الماضي أيام كان لنا صوت وسطوة وقوة تنشر رواق نور الحق والحقيقة والحب:
|
جيش عمرو مستميت بالنضال |
حطم المغرور واجتاز القنال |
إنه الإعجاز من فوق الخيال |
عبر البحر طريقاً للقتال |
فإذا التصميم عزم وإرادة |
وإذا الصبر نبات وقياده |
بعض ملامح لأسلوبه السردي الكلاسيكي.. يتناول فيه شجاعة عمرو بن العاص وهو يفتح أرض الكنانة وينشر لواء الهداية فيها ويعمق جذورها.. أما حكاية التصميم ووصفها بالعزم والإرادة فهو تحصيل حاصل كمن يفسر الماء بالماء.. ولأن شاعرنا عارف ابن مكة العاشق لروحانيتها ولطيبة الطيبة أيضا فإن شعره الإيماني يطغى على حروفه بشكل مباشر:
|
من حمى مكة من البطحاء |
وعلى الرحل في مدى الصحراء |
شع نور الهدى يزف من ال |
نبع رشادا معطر الأسداء |
وسرى في بطاح مكة يندا |
ح على الطهر في جوار حراء |
انها الهجرة التي تتسامى |
في ركاب النبوة الغرا |
أبيات مشبعة بكثافة التوصيف الروحاني يسترسل فيها سرداً وعدّا
|
في رحاب النبي ساروا فرادى |
وجموعا بخطوة (القصواء) |
(طيبة) تحتفي بأعظم ضيف |
نازل في معاقل الشرفاء |
وتجتذبه من محراب تبتله صوت شعب يتعذب على وقع سياط جلادين:
|
إيه لبيك يا فلسطين يا قد |
س سنأتي إليك فور النداء |
لقد نادت ونادت ونادت ولكن لا حياة لمن تنادي.. انها ما برحت ذبيحة ترفع صوتها بالشكوى على البلوى.. ومازلنا سنأتي!!
|
انه يلبي ويُرجع دعواته في هدوء وخشوع:
|
لبيك يا رب من أعماقنا أبدا |
نرجو ونلتمس الغفران في أدب |
كل الحجيج أتى من كل مفترق |
للدرب والدرب أشواك من الريب |
دنياه مثقلة أدنى مخاوفها |
بدء التخاذل عنوان على العطب |
والمسلمون تراهم بين متيهة |
تفرقوا شيعا ضلوا عن الكتب |
وضع شاعرنا أصبعه على الجرح الذي ما برح ينزف الصديد والدم دون أن يلقى العلاج. ثم لا أعرف ضلالاً من الكتب.. الكتب وعاء لحركة التاريخ يأخذ منه الإنسان التجربة والمعلومة.. يختارها بعقله.. حسنا لو أن الضلال كان من التعب.. التعب أحيانا يسوق إلى التيه.. أتجاوز بعض قصائده لخصوصيتها (على موعد) و(لوحة من الطائف) ونقف معا في مواجهة عاطفته المرسومة بالدم:
|
أراك عاشقة كالطير شادية |
وفي غنائك خفق جدّ متئد |
ما أنت شاكية لكنما قلق |
غنى على قلبك المذكور بالتلد |
صفى لنا كلمات من رجاء غد |
فحسب ماضيك مغبون من الكمد |
الحب في الكون يكفي أنه سبب |
يعطي ويأخذ والمحروم في (كبطد) |
كبطد، خطأ مطبعي ظاهر صحته (كبد) عاطفته المخضبة بالدم أكثر بوحا.. وأقرب إلى شفافية الصورة ومجالياتها:
|
إن الحقيقة في الدنيا مغلفة |
تبدو لكشافها في منتهى العُقد |
وهي كذلك.. إنها أشبه بالشبكة العنكبوتية التي تأخذك أسرا ولا تدعك إلا مجهد مشتت الفكر.. وشاعرنا حاول ان لا تصطاده الشبكة. اكتفى منها بالملامسة الوجدانية التي تروق له:
|
دمي رسمت به أحلام عاطفتي |
فكنت لحن فمي اشدو به لغدي |
وبعض ما فيه آمال مبعثرة |
فيها شمائل من أهلي ومن بلدي |
هذا هو الحب حب القلب منبعه |
من الحياة وميثاق بخط يدي |
ومن إطلالته القصيرة.. إلى شموخ عينيه نحو السماء يرقب النجم المضيء في كبدها.. كيف يراه.. وبماذا يوصفه؟!:
|
نجم تطاول في السحاب |
ومداره فوق التراب |
قد ضاء يحلوه الشعاع |
من السحوب المستراب |
النجم يتطاول فوق السحاب لا فيه؛ لأنه الأبعد نزولا ومستقرا.. أما السحوب المستراب فأعترف أن ذهني قاصر عن تصورها.. يتساءل شاعرنا:
|
أتراه قد نسي الحساب |
من المشيب إلى الشباب؟! |
|
كل الذي زعموه عنه |
من التخرص والكذاب |
هل أنه رأى في ألقه أكذوبة رواها العلم أنه مجرد كوكب مظلم يستقي وجهد المضيء من أشعة الشمس؟!.. ربما، ولكنه أوغل في توجسه لنجمه فهو كما يرى نحس في إيابه. وهم في دعاواه.. سرابي في حلمه.. أشعر أنه يشير إلى نجم آخر غير ذلك النجم السماوي الذي لم تلوثه عوادم الأرض وغبارها.. إلا أن يعود مرة أخرى إلى فضاءات نجوم المجرة، ثم يرجع قافلا إلى نجمه الآخر الذي يتوسد الثرى:
|
إلا أن نجمك في الثرى |
جهمُ المحيا والطلاب |
من عاش مجلود الشعاع |
قضى المسيرة في اغتراب |
نجم صاحبنا لا يرقى إلى السماء.. هذا ما تلمسته من بين تجاديف سطوره الموغلة في الرمزية..
|
يذكرنا شاعر الراحل بذكريات ليلة أنسه:
|
وليلة أنس حلوة قد قضيتها |
على وفق ما أبغيه من متعة النفس |
تهيأ فيها الصفو من كل جانب |
بصحبة رهط من ذوي النبل والتفرس |
تلمس في ليلته تلك أطراف أمنياته وحسرته.. سرعان ما وجدها غائبة ارتسمت ملامح الحيرة على وجهه.. والشرود على نظراته..
|
تراجع من أنس إلى بؤس.. طارت الفرحة من عينيه.. لماذا؟
|
فقلت ما بي حيرة غير أنني |
تذكرت من أهواه والبعد قد ينسي |
وما كان يبدو من محياي لم يكن |
سوى نبضات القلب تطفو على الحس |
ولو صح عندي ما تمنيت من منى |
لكنت طليق الروح في عالم الحدس.. |
آه من حرقة البعاد.. وحركة الظنون إنها تلقي بظلالها القاتمة حتى في ليلة أنس بريئة أحلام الصيف يقولون عنها أشبه بسحابة الصيف سرعان ما تنقشع.. فهل هذا صحيح.. نسأل شاعرنا:
|
خود الصبابة من نيران مهجور |
رمى به الحب في أحضان تنور |
في ليلة يناجي بدره وينظم شعره وينسج بردا مخمليا يلبسه خيال من يهوى..
|
(نجدية) النسج في مأنوس طائفنا |
فاقت بوارقها إشعاع بلّور |
مفردة بلّور تنقصها لام ثانية (بللور) هكذا أحسب
|
لها مطارح في المشاة باقية |
وفي الشفا والهدا ذكرى المقادير |
مجرد ذكرى طيف جميل سرعان ما اختفى، وبقيت منه ذكرياته.. أشبه بأحلام صيف غارب
|
حديث بلا موعد، إحدى محطات شعره آثرتُ معكم ان ننصت لحديثه.. ولكل حدث حديث.. وربما ايضا لكل حادث حدث.
|
حجبوها عفوا لغير ارتياب |
لا يطيق الجمالَ قيد الحجاب |
حدثتني من غير وعد حديثا |
مستقيم الحجاج والأطياب |
غمرتني بلطفها وهي تروي |
عطشي بالنمير عذب الشراب |
إلى أن انتهى الموقف.. لقد جفلت خطاه.. ترددت رغبته
|
لا أريد المعاد منه ولكن |
ارتجي ان أراكِ رهن اقتراب |
يريد ولا يريد... لماذا؟: |
فالتلاقي يضيء درب الأماني |
والتداني يلذ للأحباب |
ولكنه أيضا بتردده يريد اقناعها وإشباع وصلها به واتصاله بها: ولهذا طرح عليها هذا السؤال:
|
هل عرفت الهوى وهل ذقت فيه |
ألم الهجر في ضنى وعذاب؟ |
جربي مرة.. واني ضمين |
لك بالفوز في مجال التصابي |
لعلها جرّبت واقتربت من فهمه ومن خطابه الذي لا يكتنفه غموض ولا مواربة
|
أسير الحب لا ينفك عن قيده.. ما إن يهوى حتى يهوي.. وما ان يهوي حتى يهوى.. ان عامل الطرد لديه كعامل الجذب عنده في صراع لا تبدو من خلاله الراية البيضاء مرفوعة.. هو لا يستسلم ولا يسالم.. هو يتحدى ولا يقاوم لهذا طلب (اللقاء) من جديد بعد استعراض ذكرياته.. وقراءة مذكراته ينفخ في صفارة الدرس الجديد
|
يا حبيب الأمس والحاضر حتى |
آخر العمر وما كنت بخيلا |
لا تضن اليوم بالوصل علينا |
أنا أهواك وحبي لن يزولا |
يا حبيبي لست انساك واني |
قد وهبت القلب للحب دليلا |
فإذا ما كنت جنبي راضيا |
أجد الدنيا وما فيها جميلا |
جميل هذا الوصل الذي ارتقى الى مرحلة الانصهار والتوحد الوجداني
|
أنت لو لا أنت ما كنتُ أنا |
نحن قلبان وفاقا وميولا |
كل هذا أغدقه كالسيل وأغرقه كالطوفان في مجرى حبه.. ولكن ماذا عن الجانب الآخر الذي لم ينبس ببنت شفة.فقد لا يكون سمع، أو سمع ولاذ بالصمت.
|
يحدثنا شاعر عارف بوثيقته وهو عارف أكثر بنجوى تلك الوثيقة التي وثقها وخطها بدموع ولهه:
|
حنانيك اني صادق في محبتي |
وفي الصدق صدق القول يرمي الى العهد |
فكوني كنور البدر يسطع في الدجى |
يضيء بقلبي الدرب في مسلك الود |
ويستشهد في مقطوعته بحب آخر لمحب آخر:
|
رسائل (جبران) إلى (مي) سجلت وقائعه والنبع يزفر بالرفدوينتهي به خطاب العشق إلى حد الأسر:
|
إذا كنت يوما من أساراكِ في الهوى |
فان مكاني تحت بندكِ والجند؟ |
القفلة الشعرية واحدة هو يُوقع الوثيقة أما هي فغير موثوق في جوابها لأنه ظل في طي الكتمان
|
(العامرية) روى لنا قصتها بأبيات عذبة ندية:
|
أحببت عطف حبيبه |
والعطف فيها سجيه |
أحببت فيها عيونا |
مكحولة جودرية |
كأنها غصن بان |
بقامة سمهرية |
يرسم جمال جسدها كنحات أحسن صنع تمثاله.. كثافة التوصيف لديه طاغية إلى حد الإسراف. ومع هذا الاستغراق الوصفي:
|
لكنها تتوارى |
بالصمت والسرية |
إذا رأتني أشاحت |
ثدلاء ورديه |
الصوت في حكاياته. كالصمت في حكاياتها، قاسم مشترك أعظم محصلة ناقصة وغير مفهومة.. فهل أجد فيما تبقى من حصاده ما يكشف السر؟!
|
مهرجان عرس تتركه للعروسين وللمدعوين.. فالأفراح في غالبها تتحول إلى أتراح بعد أن ينقضي شهر العسل ويتحول إلى بصل. حتى الذكريات اتخمنا منها في أكثر من محطة..في قصيدته (الاعتراف) المهداة للأستاذ عامر العقاد يقول:
|
لا أحب الضجيج دعني وصمتي |
مبعداً عن نفاق أصحاب ندف |
لا تقل إنها سنابل جفت |
إذ نمت في العراء من غير سقف |
فمراعي القلوب تغدق رفدا |
رب حي يُروى بدمعة ذرى |
ها هنا في الحياة نحن وقوف |
في دروب الكفاح والصبر يُشفي |
نرد كما شئت في الموكاء نشيدا |
فعلى رجعه أبين وأخفي |
ويتساءل في خطابه لصديقه العقاد:
|
أترى شمسنا أطلت عليه |
أم تراه انزوى على وهم خوفه |
كان يشير إلى مجد أمته وعروبته.. ويبدو أن الشمس كسفت.. والبدر خسف.. وتداعى ضوء النهار أمام غمة الأحداث التي حاقت بنا. ولحقت بآمالنا الغضة البضة.. آخر محطات الرحلة.. وآخر قصائد ديوان (على مشارف الزمن).. رثائية جميلة أحسبها للشاعر الراحل أحمد قنديل تحت عنوان (وانطفأ القنديل).. يقول مطلعها:
|
ماذا أقول وقد أطلت بكائي |
في موت قنديل.. وطال شقائي |
قد كنتَ قنديلا توهج نوره |
ما كان أسرعه إلى الاطفاء |
عشت الحياة وأنت في خيراتها |
تبغي السباق بعزمة العدَّاء |
إلى أن يقول بعد أن أفرغ في قصيدته مواقف لحياة مشتركة:
|
فإذا بعدت كانت فيما بيننا |
روح ترف بهالة بيضاء |
لك في البيان مآثر مزهوة |
مرسومة في القلب في الأحشاء |
ويختتمها بالبيت الرائع الذي ينم عن حب دفين يتجاوز حدود الوصف.. البيت فيما أحسب لشاعر آخر استدل به شاعرنا:
|
قد كنت أوثر ان تقول رثائي |
يا منصف الموتى من الأحياء |
لموتانا الرحمة.. ولشعرهم الصادق الخلود.. وللرحلة نهايتها..
|
سعد البواردي |
الرياض ص.ب 231185 - الرمز 11321 فاكس 2053338 |
|