ليس هناك أمر يختلس من الحياة جلالها وبهاءها ورونق ألوانها، قدر الشمولية والتعميم، لا شيء يجرّد المخلوقات من إبداع خلقها وتجلياته قدر القوالب التي تحاول أن تحشر الآفاق الشاسعة الممتدة في حيز ضيق يكسر عظامها.
على المستوى السياسي فإنّ الأنظمة الشمولية في العالم القائمة على أيدلوجيات صارمة تصف المجاميع في طوابير متشابهة ممتدة، لم تنتج إبداعاًً أو حضارة أو تفوقاً علمياً أو صناعياً، الدول الشيوعية حينما انهار جدارها الفاصل الذي كان يقصيها عن العالم، انطلقت شعوبها (كجوج يا مأجوج) إلى أصقاع العالم تنشد الحرية والخصوصية والفردانية، بينما الأنظمة التي قامت على احترام الفرد والإعلاء من شأن العبقرية الفردية، والإيمان بالتعددية والتنوع، واحتواء وتشجيع الطفرات الإبداعية, استطاعت من خلال هذا أن تنقل البشرية إلى خطوات متقدمة متطورة متجاوزة لمواقعها القديمة.
التعميم المطلق بجواب واحد هو المدخل الأول للعنصرية ذات الأنظمة الإقصائية القائمة على وهم التفوق والتميز دوناً عن شعوب الأرض، ففكرة شعب الله المختار أنتجت أبشع احتلال عنصري يشهده العصر في إسرائيل، وفكرة مركزية أوروبا الحضارية وتفوّق شعوبها، أنتجت حملات استعمارية وحروباً ومآسي مازال العالم يكابد عقابليها إلى اليوم.
ندخل مضمار الحياة وقد امتلأت حقائبنا بالتصورات والمفاهيم المطلقة العمومية التي تحجبنا على نبض الحياة المتواري خلف العموميات، نحضر ونحن نعتقد بأنّ العالم الخارجي من حولنا ممتلئ بالشرور والآثام وتدني سلم القيم, فنظل مرتهنين لتلك الفكرة نترقّب الشر القادم من معاطف الغرباء، ونمرّر لصغارنا اكليشهات دونية لشعوب الأرض فالشعب الفلاني غبي، والشعب الآخر لص، بينما الشعب الآخر يعاني من انحدار خلقي .. وهكذا قائمة طويلة من التعميم ضد شعوب الأرض الذين يشاركوننا بناء حضارتنا يوم أثر الآخر.
وتهمس الأمهات في آذان البنات بأنّ الرجل لا يؤتمن.. مراوغ متقلّب وغامض، فتصبح حياتها الزوجية مضمار مناورات ومخاتلات ينتفي فيها الود والأمن والحب، بينما على الجانب الآخر يشرب الفتى مع الحليب بأنّ النساء ناقصات يعانين من قصور أبدي، بعيدات عن النضج والمسؤولية، ومن هناك يغلق دماغه على هذه المسلمة العمومية، ويعجز عن أن يغادرها في حياته الخاصة.
التنوع والتباين والاختلاف نعمة، بينما التعميم هو دبابة متعجرفة تمر فوق حقل زهور، تمشي بشكل بهيمي متوحّش عاجز عن أن يفطن لرقة التويجات، وانعكاساتها اللونية، وشفافية غبار الطلع، وصبوات الأريج، وجلال قدرة الخالق في التنوع والاختلاف.