اللقاء الذي أجرته جريدة الرياض مع معالي الدكتور محمد العيسى وزير العدل، عضو هيئة كبار العلماء، وضع كثيراً من النقاط على الحروف، وأحال الرأي المتشدد إلى رأي ضمن آراء، وليس الرأي الأوحد الذي مَنْ خرج عليه فقد خرج على تعاليم الإسلام. اللقاء كان عن جامعة الملك عبدالله، وما أثارته بعض الأصوات المتشددة من لغط حول الاختلاط في الجامعة. ومعاليه عالم متمكِّن بلا شك، ورأيه من حيث التأصيل الفقهي في منتهى القوة والتماسك، وهو يرقى، إذا لم يتجاوز، تأصيل الدكتور القرضاوي، وكذلك الدكتور علي جمعة مفتي مصر، اللذين تحدّثا عن القضية ذاتها، وانتهيا في النتيجة إلى ما انتهى إليه معالي الدكتور العيسى.
أعرف أن التيار المتشدد سيصرُّ على رأيه المعارض، وسينافح عنه، وسيتلمس من (النقولات) ما يرد به على تيار الاعتدال والتسامح الذي يرى جواز الاختلاط؛ غير أن القضية الآن لم تعد كما كانت من قبل؛ فالقول بأن (الاختلاط حرام) أصبح عملياً قولاً من ضمن أقوال، واجتهاد ضمن اجتهادات أخرى، ولا يمكن القول بأن إباحة الاختلاط بين الرجال والنساء في الدراسة والعمل - مثلاً - ضمن ضوابط، بحيث لا يُفضي إلى محرم، قول شاذ وقد قال به علماء أفذاذ، لهم من المكانة العلمية والعملية ما يجعل القضية برمتها تصبح في التحليل الأخير (قضية خلافية)، بين تيار يرى التعسير، وتيار يرى التيسير. وجود هذين التيارين هو في نهاية المطاف إثراء للفقه، ودليلٌ عملي على أن القول المتداول: (اختلاف الأئمة رحمة للأمة) هو قول صائب إلى درجة كبيرة، وإن أزعج المتشددين كثيراً.
المشكلة أن هناك بعض فقهاء التعسير والتشدد يرفضون الرأي الآخر متى ما خالفهم، ويصرون على أن قولهم (هم) هو الإسلام، ومن قال بقول غير قولهم فلا علاقة له بالإسلام. هؤلاء تحديداً هم أس بلائنا، وهم بمثابة (حجر عثرة) في طريق التحديث والإصلاح والتنوير والتنمية؛ وأدق مثال على ما أقول موقفهم (المتشنج) من جامعة الملك عبدالله للعلوم والتقنية، فقد جعلوا من مسألة حرمة الاختلاط قضية محورية، وتجاوزوا أهداف هذه الجامعة العملاقة التي أصبحت حديث كل الفعاليات العلمية والسياسية والأكاديمية في العالم أجمع، رغم أن حرمة الاختلاط بين الرجال والنساء التي (يدندنون) عليها قضية خلافية مثلما الأمر في منتهى الوضوح الآن.
وغني عن القول إن جامعة الملك عبدالله (خيار) ضمن خيارات، مثلما أن هناك من يرى عدم جواز الدراسة فيها بسبب الاختلاط، هناك من الفقهاء من يرى الإباحة، فمن اقتنع بفتوى من يرون الإباحة فالجامعة فاتحة أبوابها، إذا كانت مؤهلاته وإمكانياته ترقى إلى شروط القبول فيها، ومن رأى عدم الجواز فلن يفرض عليه أحد الدراسة في هذه الجامعة، ولديه خيارات أخرى في جامعات سعودية ترى الفصل بين الجنسين. وهذه الحجة تحديداً قيلت - بالمناسبة - قبل تقريباً نصف قرن لمن (حرّموا) تعليم المرأة آنذاك، قيل لهم: القضية خلافية بين من يرى الحرمة ومن يرى الإباحة؛ فمن أراد تعليم ابنته فالخيار موجود، والمدارس مفتوحة، ومن رأى خلاف ذلك فلن يُجبره أحد؛ والنتيجة كما ترون بأعينكم اليوم.
وكنت قبل أيام في نقاش مع أحد الأصدقاء، كان يُصرّ على أن هذه الجامعة المختلطة سابقة يجب أن نقف لها بالمرصاد. هذا الرجل تتلقى إحدى بناته تعليمها برفقة زوجها في الخارج، وفي جامعات مختلطة. قلت: وماذا عن ابنتك التي تتعلم في الخارج في جامعة مختلطة؟.. إذا كان تعليمها في بيئة مختلطة يَمَس (بسمعتها) فيجب أن تمنعها، أو على الأقل يجب أن (تنكر) عليها؛ فسمعة المرأة تأتي من حيث الأولوية قبل التعليم، فما الذي جعلك تسمح لابنتك بالتعليم في بيئة مختلطة هناك وترفض التعليم المختلط لبنات الناس هنا؟
هذا الأب الذي يكيل بمكيالين، ويتقمص شخصيتين متناقضتين هو نمط من أنماط كثير من السعوديين؛ فما يتعاملون به في الخارج شيء، وما يتعاملون به في الداخل شيء آخر؛ وكأن القضية قضية جغرافيا ليس إلا! إلى اللقاء.