Al Jazirah NewsPaper Tuesday  27/10/2009 G Issue 13543
الثلاثاء 08 ذو القعدة 1430   العدد  13543
جامعة الملك عبدالله للعلوم والتقنية: رؤية مستقبلية أبصرت أعتى التحديات
عبدالله بن محمد الشهيل (*)

 

تزامن افتتاح جامعة الملك عبدالله للعلوم والتقنية مع اليوم الوطني جاء: احتفاء دلالياً على رؤية مجسدة لأهمية مُنقضٍ تغييري نقل الوطن من التفكك إلى التماسك، ومن التخلف إلى النهوض ومن التباعد والتفرق إلى الوحدة والتلاحم، ومن الضعف إلى القوة ..

بعدما جمعت الجهود، واستنارت العقول، فساد الاستقرار، واستتب الأمن، وتوثق الولاء بالاندماج، وثبت الشعور بالانتماء، فتأسست مواطنة حقة، وقد عمت النهضة.

وراهن توالت فيه: الإضافات والانفراجات، وتزايدت المعطيات، وتعززت المنجزات، واغتنى بالطموح، والجدية بالسعي، والوعي بكنه الخصوصيات التي لا يتم خصابها إلا بالتكيف، والرحابة بالتعامل والتفاعل، وتبادل المنافع، والانفتاح والتسامح، وليس بالتقوقع والعزلة اللذين يحولان دون إشاعة العلوم والفنون والآداب، ويجمدان المواهب والقدرات والمهارات، ويحجبان التوعية بما يجب، وما لا يجب، وإن لم يؤديا إلى التوحش، فإلى التهميش.

أما المستقبل، فالملاحظ: أن التوجه إليه أعد له من خلال وعيٍ بما حملته التطورات والمتغيرات إن سلباً أو إيجاباً، وإحاطة تامة بما كان، وما هو كائن، وبواسطتهما في الإمكان إبصار مقاربة لما سيكون، ويبدو أن الوعي والإحاطة أهم ركيزتين لاستدعاء: وضع استراتيجية راصدة للنتائج المتوقعة بتعين أسلوب العمل، ونوعية الطاقات المحشودة، وكم الخطوات المتخذة لتحقيقها.

هذه الأزمنة المتصلة ببعضها، والمتواصلة بالإصلاح، والتنمية والإضافة، والمعززة بالعدل والرعاية، فتجذرت الهوية الوطنية، وتتابعت الدوافع المتصدية للاختراق، وهذا معناه: أن البلد بالاستمرارية والتجريب، وبالتعليم النوعي سيعدم الخسران، وينفي الاسترخاء، ويهضم ما يتأثر به، ويتمكن بالإبداع والإنتاج من الاستغناء، والحضور التنافسي من غير انقطاع عن التعاون والتبادل، وتأسيس علاقات متكافئة تقوم على الثقة، والتوازن في المصالح، وهي عملية تطويرية صعبة، ولكنها ممكنة.

العالم اليوم يواجه ثقافة تكاد هيمنتها تُلحق كوكب الأرض بها، أو هذا ما تبدو به حتى الآن: عاصفة بوجهيها الساخن بالحروب والغزو، والعقوبات والتهديدات، والضغوط والانحيازات والتدخلات، وناعم بالتفكير والمفاهيم، والمساعدات والوعود، والدراما والغناء، ومختلف أنواع السلع، والتقليد البليد بالسلوك، والعلاقات الاجتماعية، والمأكل والمشرب، والملبس والألعاب.

ثقافة إلغائية رغم تضييقها المسافات بالتقنية والاتصالات، ووسائل النقل، والأقمار الصناعية، والفضائيات، ولكنها وسعت بين العالم بالعنصرية، والصراعات، والاحتلالات، وباعدت سياساتها ما بين سكانه في المستويات المعيشية، والعلمية والفكرية، فنشأت بينهم: مشاعر الكره، والغيرة والخوف، وجميعهم يعانون.

سكان البلدان المتخلفة، والكثير مما هي في طور النمو، وبعض النامية يعانون من شح الموارد، والفساد المالي والإداري، والتسلط والفوضى، والصراعات الاثينه والدينية والمذهبية، والجهل والفقر، والضعف والعجز.

وسكان البلدان المتقدمة، وما فوق النمو يعانون من التلوث والاختناقات، والاضطرابات، والاضرابات، والأزمات والاحتكارات، والزحام والضوضاء، والتعقيد والانحلال، والتوحش في العلاقات، وتزايد الجريمة المنظمة، ولكنهم مع ذلك محميون بالمؤسسات التي تحفظ حقوقهم، والضمانات الاجتماعية والصحية، وبالعلم والوعي، قادرون على تسوية خلافاتهم، وإيجاد الحلول لمشكلاتهم، والتحفز للمنافسة.

لهذا، فالأحادية سواء ثقافية، أو سياسية أو اقتصادية، وإن سادت لفترة طويلة أو قصيرة لا تدوم لانطباعها بالفوقية، والابتزاز، ولكونها مكروهة ومرفوضة، ولتعدد الثقافات بالعالم، واختلاف الطبائع والأذواق، والبيئات والأهداف، والأعراق، والديانات، والتباين في الإيدلوجيات بين أجزائه، ولنجاح كثير من الدول إن ضمن تكتلات، أو انفرادية باستثمار طاقاتها بتطوير صناعاتها ومنتجاتها، واستكمال احتياجاتها لصنع حضارة متفوقة من غير فوقية بحسب ما يبدو حتى الآن، فرحب بها، فراجت بضائعها وصناعاتها بجودتها، وانخفاض أسعارها.

إذاً، التحديات مستمرة، والاستجابات لها أيضاً على مختلف مستوياتها، وأهمها وأقواها وأجداها: الاستجابة الصعبة المبلورة للعلم والفكر والفعل التي تنطبع بمسارين: شفاف ومواجه، وغالباً الخيار الأول مُقدم بالعمل على اتساق المسارات، تكامل الفعاليات، والطموح اللامحدود بمحطات، ومقيدٍ بالتردد والارتباك، وامتلاك القدرة على الابتداع، وفرز المأخوذ، والإضافة إليه، وطلب الندية بواقعية متحركة.

الوصول لهذا المستوى غير ممكن ما لم ينظر للإنسان نظرة خاصة باعتباره: الثروة التي لا تنضب، ورأس المال المستعصي على التراجع، وذلك لا يتحقق إلا إذا لُبيت حاجاته: العقلية والمادية، والنفسية والجسدية، ووفرت له الأجواء المشجعة على الحماس والحيوية، والإقبال بنشوة على العمل، والإبداع والتفكير، فيصير عندئذ: قادراً على مأسسة حياته بمعرفة مسؤولياته وواجباته، وحقوقه ودوره، وضمانة حضارية: ترسخ الاستقلال، وتنهض باستمرار بالعلوم والآداب والفنون، والاقتصاد والسلوك، وتوطن التقنية والتنمية.

لقد كرم الله ابن آدم بتقديمه على جميع مخلوقاته بالعقل ليقوم بعمارة الأرض، ففكر وتبصر، وميز وتدبر، ووعى ولاحظ، وتأمل وجرب، ومن ثم: تعلم كيف يبني المأوى الذي يقيه من البرد والحر، وصنع ما يدفع به المخاطر، ويصطاد ويزرع، وكون العلاقات، وأمن نفسه بالتجمعات القائمة على رابطة الدم والنسب، والمصالح المشتركة، وهداه الأنبياء والرسل إلى معرفة الخالق، وشيئاً فشيئاً تزاديت معرفته بفعل تراكم الخبرات، فأسس المدن والدول، ووضع الأنظمة، والتشريعات والقوانين التي ضبطت سلوكه، وعينت حقوقه وواجباته، وما يُثاب عليه ويُعاقب، ولكنه غلب عليه: الجحود والظلم، وشهوة الاستيلاء، والطمع والابتزز، والاستكبار والعنصرية، وشن الحروب.

إلا أنه من حسن حظ الإنسانية: أنه سبحانه خص بعضاً من البشر بمواهب وخصال انتفعت بها بلدانهم، وبينهم من لم يتعلموا تعليماً نظامياً، ولكنهم مجبولون على حب الخير، ومساعدة المحتاجين، وقواهم إيمانهم على الصبر عند الشدة، وعدم اليأس، والعمل الدؤوب، والتفاني بخدمة أوطانهم، وبينهم: قادة عظام رفعوا شأن بلدانهم، ومصلحون كبار أنارت أفكارهم مجتمعاتهم، ومبدعون وعلماء ومفكرون أفذاذ غيروا وجه التاريخ.

الأثر بالغ الأهمية الذي تركه هؤلاء بجميع المجالات، وأنه برغم ضرورة الإضافات، وتأسيس أمتن القواعد لرد التحديات، والمشروعات النهضوية، وتخطي العوائق، فلا شك أن التعليم أبو النهضات، ومفتاح الوعي بوسائل التطور والتنوير وباعتباره المدخل الأرحب لبناء العقول، وسمو الإبداع، واشتداد السواعد، ونظراً لسرعة تتابع المستجدات، وما تستدعيه: نواميس الارتقاء، وروافدها، وطبيعة كل عصر، وتحمله المتغيرات، وحتى لا يتسلل الخلل لا بد من إعادة النظر بين حين وآخر، بمناهج التعليم، ومقرراته ونظامه، ونوعه واحتياجاته، مراعاة دعمه بالكفاءات المؤمنة برسالة، والواعية بما يحتاجه المجتمع، ويخدم البيئة، والحرص على ألا يكون تحديثه متجاوزاً تفعيل المناسب من المخزون العلمي والفكري، والتركيز على التخصصات الحديثة، وما يُنمي المواهب والمهارات.

وهنا يبدو أنه لا بد من الإشارة إلى أن بلوغ الإنسان أعلى المستويات بالطبع لا يُبلغه الكمال، أو يعصمه من الأخطاء، والمثالية نسبية؛ لأن ملائكية البشر مستحيلة، وما داموا كذلك فهم، عرضة للصواب والخطأ، فيزيد ما يقومون به، أو ينقص، ومهما بلغت مكانتهم الحضارية لا تخلو حياتهم من التباينات والتناقضات، والتطرف والانحراف، ومحاولات التشويه والتقبيح، وهذا معناه أن المكانة تُقاس بالنسبية إن ارتفاعاً، أو انخفاضاً بالإيجابيات، وهذه تقررها: السياسات والمواقف، وتكاملية المعطيات، أو عدمها، وسيادة الأمن والقانون، أو تسيبهما، ومأسسة التنوع والتفاعل، والاختلافات أو عدمها.

وعلى الرغم: أنه معروف عن الملك عبدالله حرصه على المصلحة العامة، ومحاربة الانحرافات، وبشجاعته وصراحته، ووضوح مواقفه، وتضامن المسلمين، وتوحيد الصف العربي، وسعيه لإقرار السلم بالعالم، وما نفذ من مشروعات ضاعفت تأطير النهضة من شتى جوانبها، لم يشأ إلا تعميقها لتأمين الوصول لما هو: أفضل، وأرغد وأجمل، وبحجز التباعد بالمزج والتكافل، والعناية بالمواهب والمهارات، والحث على الابتكارات.

لهذه الأسباب وغيرها: يبدو واضحاً أنه وضعت خطة طموحة لإدامة تزايد المكتسبات الداعمة لتثبيت استراتيجية محققة لضمانات حضارية من شأنها تركيم الخبرات والقدرات، والاختصاصات والمهارات، وتغذية العقول، وإشاعة الوعي، واجتياز أصعب العقبات، وإغلاق أبواب الإحباطات والمثبطات، وفتحها لمستزلمات كل عصر برسم طريقة العمل التي تعين الخطوات برفدٍ معرفي.

وهكذا نرى: أن الملك عبدالله شأنه شأن كل العواهل العظام، والقادة التاريخين في رؤاهم، وأفكارهم وأفعالهم الذين يعون ما يُقدِمون عليه، ويبصرون التحولات، وكيفية هيكلة الفعاليات، ورفع الجمود عنها بالحراك والتجديدات، وتطويرها تطويراً يتناسب مع الثورة المعرفية، والتدفق المعلوماتي بتعقيداتها وتشابكاتها، وتشعباتها وتداخلاتها في آن، والتباعد الثقافي بين الشعوب، وسعة الفجوات، وصعوبة التحديات، وعنف المواجهات.

الغلو والعصبيات، والطمع والتجبر، والعنصرية، وشهوة الاستيلاء، والحاجة الماسة لتأسيس مصدات للاختراعات، وتذييب الكم الأكبر من السلبيات والانحرافات، ولكفالة استمرارية العطاءات، وتوطين العلوم العصرية لا بد من تعليم عالٍ يرقى رقياً تفاعلياً يغذي الحس الإنساني، ويمتن التواصل، ويؤسس قاعدة صلبة لا تنوء بالضغوط مهما تكاثرت وثقلت.

إن الملاحظ حتى عن بعد بأن جامعة الملك عبدالله للعلوم والتقنية تبدو في أطرها ونظامها، وشكلها وتشكيلاتها، ومضمونها وأهدافها، وأساتذتها وطلابها، ونوعية تخصصاتها، وفرادة تجهيزاتها، وحفولها بخبراء نادرين، وقدرات علمية وفكرية رفيعة، ومهارات إدارية وفنية، والإمكانات الملبية لكافة احتياجاتها، والمناخات المناسبة، والاستعدادات غير العادية، وموالاة الاهتمام بها، والمتابعة المتواصلة، والمراقبة الدائمة.

تبدو هذه الصورة: جامعة عالمية، أهدافها إنسانية بصيغة وطنية وبثوب عربي، تُجذر التأثر، وترسل التأثير حيث تصب فيها ثمرات نوابغ العلماء، ومهرة الباحثين، ويجنيها الوطن، وتنهض بها المنطقة، ويستفيد العالم، وتُذلل بها المستعصيات الصحية والنفسية، وتعمر العقول بالعطاء والإبداع، والنفوس تتقوى بالإيمان والاستبشار، وتجتمع فيها تنوعات من بلدانٍ تصهرها بيئة علمية مع اقتطاع حصة كافية للمواطنين لتجميل وجه الدنيا بالسلام والتعاون، والحضارة والقيم، والعيش الكريم.

(*) باحث بتاريخ الحضارات



 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد