Al Jazirah NewsPaper Tuesday  27/10/2009 G Issue 13543
الثلاثاء 08 ذو القعدة 1430   العدد  13543
ضرورة التخلص من سلطة الجماهير
عبد الله بن محمد السعوي

 

من الظواهر الثقافية الملاحظة في عالم الإنسان، هو التطلع للظّفر باستحسان الآخرين والفوز بما يمنحونه من تأييد، وليس ثمة معرّة في ذلك إذا كان هذا الأمر في حدود المقبول، ولكن المحظور هو تجاوز تلك الحدود، لأنه حينئذ يضحى سلوكاً يعبِّر عن مثلبة كامنة في أغوار الذات؛ إنه يبيت أمراً غير مرغوب فيه عندما يكون في سياق البحث عن الحقيقة، أو صادراً ممن تصدّى للإصلاح أو عندما يستحيل إلى حاجة ملحّة تحدو من

تنتابه نحو التطلّع لإرضاء الجماهير والمغازلة الخفيفة الخفية لها كخطوة أولية لتسويق الذات في أوساطها، المصلح هنا يتنازل عن ذاته ويتخلّى عن قناعاته كضريبة يجري دفعها للحصول على بطاقة الترشيح في دائرتها؛ إنه يقع في قبضة سواه من جماعات الأتباع، وحينها لا يستطيع أن يكون إنساناً مختلفاً، لأنه بات رهناً لإشارة الغير، على نحو يعيقه عن إنشاء أي نشاط لا ينال استحسان ذلك السّوِي.

إنّ ثمة ثوابت أولية لا يسوغ التنازل عنها بأي حال من الأحوال، كوحدة الصف والمحافظة على سلامة البعد الأمني وعدم الانشقاق على إجماع العلماء ذوي المكانة الاعتبارية في الأمة, وعدم التهييج التصعيدي الرامي لفك الارتباط بالمنظومة السياسية, كل هذه ونحوها من الثوابت لا يصح التنازل عن شيء منها تحت إملاء الأتباع أو اندفاع المريدين أو ضغط الجماهير التي كثيراً ما توظَّّف شحنتها الوجدانية ضد مصلحتها.

إنّ هذا المسلك الاسترضائي لا يعبِّر في الحقيقة إلاّ عن كينونة مفعمة بالوهن، نتيجة لتجذر صورة واهية عن الذات التي تبدو مغرمة بموافقة الآخرين لها، وتتفانى في سبيل أن تحظى بأكبر مساحة من تأييد المحيطين.

إنّ هذا السلوك الذي يفصح عن عدم التوازن في الشخصية الثقافية، يمنع صاحبه عن اتخاذ أي قرار أو تبنِّي أي موقف، أو طرح أي رؤية مغايرة لرؤية الجماهير, وهذا الأمر، وخصوصاً عندما يصدر من ذوي القيادة الفكرية، فإنها كارثة يصعب تلافي متتالياتها. والمفترض في مثل هذا الصنف أن يتجرّد من سلطة الجماهير فلا يكون مجرّد صدى لردود أفعالها, ولا يتحدث من منطلق التناغم مع توجهاتها, ولا يسوغ أن ينطلق صاحب الرؤية من منطلق التطلّع نحو توسيع قاعدة المصفقين، واعتبار الظفر بإرضائها هو الهدف الجوهري الأول! لأنّ هذا المسلك لا يليق بحاملي الرسالة الذين ينتظر منهم الالتزام بالمبدأ, والتحلِّي بروح المبادرة وقيادة الجموع، بدلاً من الانقياد لها أو التموضع على النحو الذي يروق لوجدانها. أمر يقلل من قيمة المصلح أن يجعل نفسه تحت تصرف القطاع الجماهيري العريض، فيدفعونه للاندفاع الفاقد لكوابح الاتزان حيناً, ويحجّمون من إقدامه صوب القيام بالمبادرات الفردية حيناً آخر.

أحياناً صانع الخطاب التثقيفي قد يتخلّص من سلطة جماهير معيّنة ويفلت من فكّها في سياق معيّن, ويظن أنه أصبح مستقلاً أو أنه بات حُرّا متعالياً على الإملاء, مع أنه قد يكون وقع في قبضة لون آخر من الشرائح الجماهيرية, وهذا يعني أنّ عملية التخلص من سلطة الجماهير لم تتم, وإنما كل ما في الأمر أنّ ثمة استبدالاً لجمهور بجمهور آخر مكانه؛ فإذا كانت إحدى الشريحتين تحدو نحو الاندفاع اللامدروس فيجري الاندفاع وفقاً لإيحاءاتها, فإنّ الأخرى قد تولد لوناً من الأداء القائم في بعض صوره على الالتفاف, والموضوعية تقتضي مراعاة تلك الاعتبارات لتجنب الوقوع في فخ عدم التوازن أو تحت طائلة ردود الفعل الانعكاسية التي تفضي صوب الوقوع في نظير ما كان يُرام التحرر منه قبلاً, مما يعني المراوحة في ذات المكان؛ لأنّ السلطة الجماهيرية هنا لازالت تحتفظ بحضورها, فالتحوير الذي تم ليس سوى لون من تغيير المواقع وانتقال من جمهور إلى آخر, وهذا الجمهور الأخير يتم التعاطي معه أحياناً كمصدر يمكن أن يُستمد منه شحنات من الطاقة المعنوية التي تمكن من إبداء قدر عال من التمنع ضد الجمهور الأول, وأيضا فإنّ ما يُفقد من مكتسبات فإنها غير مأسوف عليها لأنّ في الشريحة اللاحقة ثمة غُنْية وعوض, وما يتم التعرض له من أسى نتيجة هجوم هناك سيجري تعويضه عبر الابتهاج بما يصدر من إطراء هنا, إذاً ففي كلتا الحالتين الجمهور يمثل الملاذ الذي يهرع إليه كنوع من طلب الإسناد!؛ إذاً السيناريو المتعين هو هروب من جمهور إلى جمهور نظير له, ثمة هروب من الجمهور إليه, واحتماء به منه!.

إنه لا يجمل بذوي المواقع التأثيرية ممارسة لون من تملق الأنصار على نحو يعمق هيمنتهم, ويضاعف سيطرتهم, ويجعل المتبوع ينتظر من الأتباع أن يتفضلوا عليه بالتعبير عن استحسان مواقفه.

هنا المقود يمارس نوعاً من التلاعب بالقائد!, ثمة سلطوية حاضرة في هذا المساق, ثمة ازدواجية ظاهرة, فالمتبوع هو تابع في الوقت ذاته، إذ ليس بمقدوره الإفصاح عن رأي، إلا بعد الحصول على إذن - ضمني - مسبق من قبل الشريحة التي هو بحوزتها.

إنّ التوفر على البعد الاستقلالي شرط في منتهى المحورية، والتجرّد من شَرَك العشاق مطلب لا مناص من استحضاره لكل من رام ترشيد الأداء الترشيدي. إنّ الجماهير بطبيعتها توجه رسائل مرئية ذات ملامح وجدانية تنعكس إفرازاتها بشكل سلبي في معظم الأحيان على من يتصدّى لقيادتها، فقد يحيد عن مواقفه وقد يتصرف على النحو الذي لا يعكس ما في قرارة خلده، تفادياً لردود الفعل المنطوية على الاستياء, وتحاشياً للسخط المرتقب الذي قد يتعسّر التعاطي معه بفعالية وثبات.

إنّ من الضرورة بمكان تدريب النفس على عدم التجاوب اللامنطقي مع تلك الأصوات الهادفة لثني صاحب الفكر عن موقفه, ولا بدّ من توطين النفس على إعلاء درجة التحمل ومضاعفة مستوى التصميم، على نحو يتيح بناء المواقف لا على نحو مساوق للإرادة الجماهيرية, وإنما على ضوء تلك الحقيقة المنبعثة من ذلك الضمير المستتر في الأغوار اللجية.



Abdalla_2015@hotmail.com

 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد