كان ولا زال تقييم أغلب المنتجات الصناعية يعتمد على مصادر صناعتها، وقد كانت الجودة أن يكون مصدر المنتج أوروبياً أو أمريكياً، بينما تنحصر غير الجودة في المنتجات الصينية، وعلى أنها مجرد تقليد رديء لصناعة غربية أصيلة، لكن ربما خفي عن الكثير أن منهج التقليد كان فلسفة شرقية آسيوية أثبتت قدرتها على الوصول إلى المستقبل من أقصر الطرق، فقد كانوا يدركون جيداً أن تقليد صناعة موتور أوروبي أهم من عشرات الآلاف من درجات الدكتوراة في العلوم النظرية، وكان ذلك بالفعل ما حدث، فالصين وكوريا وقبلهما اليابان استثمروا أجيالا في إتقان تقليد الصناعات الغربية، وقد كان بالفعل حراك غير تقليدي في اتجاه المستقبل..
بينما رضع العرب من ثقافة تقليد الماضي حتى لم يظل في أدمغتهم مكان للمستقبل، وعندما نحاول عمل مقارنة بين ما حدث في الشرق الآسيوي، وما أنجزه العرب خلال القرن الماضي، سيحتاج الأمر إلى وقفة تاريخية مع حقيقة المنجز العربي، وهل يوجد شيئاً من ذلك في العصر الحديث، فالتقليد في ثقافة العرب تتجه بوصلته بكامل مؤشراتها إلى الماضي، ويحظى بقدسية وحماية على مختلف المستويات، وتكاد أغلب أطروحات الثقافة العربية ماضوية، وتستمع باجترار مسائل ومواقف وصراعات عفا عليها الزمن وأفل..
لكن التقليد الآسيوي يختلف تماماً عن فلسفة العرب الجامدة في التقليد، ودائماً ما كان تتبعه أساليب التطوير والاجتهاد في إحداث التغيرات في المقلد، وقد يتم اختصار المنجز الآسيوي في تقليد المحرك أو الموتور، لكن كان تقليد يتبعه تطوير يتجاوز التعريف السطحي للتقليد، ويخرج إلى مجالات أخرى يأتي على رأس قائمتها الإدارة وتقاليد التنمية المستديمة، مما فتح الباب على مصراعيه أمام ابتكارات التقنية الآسيوية للدخول بصورة متجددة إلى الأسواق العالمية، بينما اختار العقل العربي أن لا يتطور وأن يجعل من التقليد مصدراً دائماً للتكرار، وكان ذلك جلياً في مختلف علومهم، بدءاً من بحور الشعر، وانتهاءً بمدارسهم الفقهية، ويدخل في ذلك أيضاً فن الزخرف الإسلامي وتشكيلاته الهندسية، والتي لم تتبدل منذ قرون، ولم تأخذ صور جديدة في عالم يتميز بسعة أفقه للتطور والتغيير في اتجاه الغد..، كذلك كان ألوانهم الموسيقية تحمل في نفس الأنغام و محمية باسم الأصالة والجذور، بينما استطاعت الأمم الأخرى أن تتجاوز إبدعاتها في مختلف الفنون، وأن تتحرر من أزمة السكون التاريخي..
تقوم فلسفة التقليد على تفكيك أجزاء الجهاز المقلد، ثم العمل على إتقان تفكيكه وتركيبه، وهكذا، ويعتبر أذكى وأسهل سبل نقل الحضارة الغربية، إذ دائماً ما يكون الإبداع في أولئك العمال والفنيين الذين يتم استثمارهم في إنتاج الآلة والموتور والذي كان مفتاح التقدم الصناعي الغربي، والجدير بالذكر أن الدولة في الشرق الآسيوي كانت خلف هذا الإنجاز، فقد استثمرت الحكومات الأسيوية الجهد والمال من أجل بناء شركات تقليد الصناعة الغربية، وأن تكون خلف تسويقها عالمياً، بينما لازالت التنمية العربية تعتمد على خطط وبرامج تنموية لم تتجاوز مستوى النظرية، وكانت دائماً ما تقدم على إنها إنجاز تاريخي وهي لم تزل على الورق، وقضية الاحتفال بالمنجز قبل تحقيقه هو في واقع الأمر ماركة عربية، فالعرب شغلوا أنفسهم والعالم بأخبار إنجازاتهم، والتي في واقع الأمر إذا تمت مقارنتها بالمنجزات الآسيوية ستكون أقرب لفقاعة الصابون في نهار صيفي..
أزمتنا الحقيقية أننا اعتقدنا في يوم ما أن الثروة النفطية هي الطريق نحو عالم الصناعة الأول، لكن تلك الرؤية أسقطها في بادئ الأمر مفهوم التقليد الماضوي، إذ تم استثمار الأموال في إرسال البعثات في المناهج النظرية، وفي إعادة إنتاج الماضي وتحويل المجتمع إلى مؤدلجين بفكرة التقليد، بينما الحقيقة تختلف عن ذلك كثيراً، فالطفرة المالية لم تكن حصيلتها السلبية فقط تخريج أجيال من المنظرين، ولكنها أطفأت غريزة العمل التقني والمهني في المجتمع وحولت المواطن إلى كفيل كسول في سوق العمل، وأن يرتد إلى تقليد الشيخ العربي، بينما سيطر العمالة الأجنبية على سوق العمل في المصانع والورش والمعامل، وبذلك أصبحت الطفرة المادية في العهود السابقة أقرب لأن تكون نقمة على أجيال ضاعت بين أوهام تكوين الثروة بأسرع الطرق والانتقال إلى حياة المشيخة الوهمية في عالم لم يعد يعترف إلا بتحقيق الإنجاز الحقيقي.