من المعلوم أن الآية الكريمة التي يكوّن عنوان هذه المقالة جزءاً منها، قد نزلت في المنافقين على عهد نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - وهم أولئك الذين كان من أبرز صفاتهم إظهار الإسلام وإبطان الكفر. فكان أن حكم الله عليهم - وهو أعدل الحاكمين - أنهم في الدرك الأسفل من النار.
|
على أن صفات أولئك القوم المنافقين ما ينطبق على أناس في عالم اليوم. ومن هؤلاء من هم داخل المجتمعات المسلمة ومن هم خارجها. ولكلٍ في النفاق طريقته الخاصة الواضحة.
|
وفي المجتمعات المسلمة؛ وبخاصة العربية منها، تبدو مظاهر النفاق في وجوه متعددة. ومن هذه الوجوه كيل المدائح كيلاً غير موزن في كثير من الأحيان حتى أصبحت هذه المدائح طقوساً أشبه بالواجبة والمستمرأة. وبدلاً من أن يحثى في وجوه أصحابها التراب - كما أوصى بذلك سيِّد الخلق القدوة والأسوة الحسنة للمؤمنين من أمته - أصبحت منزلة هؤلاء هي الأرفع في المجتمع. ويندر أن تجد وسيلة إعلام في عالمنا العربي بالذات لا يتحلّى المهيمنون عليها بذلك الفن من النفاق. وهذا ما جعل القيادات القابلة للتفرعن تتفرعن على شعوبها وتدجِّنها. ولعل من أوضح أدلة هذا التدجين ما حدث من صمت يشبه الموت تجاه ما ارتكب قادة الكيان الصهيوني؛ مدعومين دعماً غير محدود من قبل زعماء أمريكا وأوروبا، من جرائم فظيعة ضد غزة وأهلها، وما يحدث الآن من تهويد متسارع للقدس بما فيها المسجد الأقصى. وكنت قد قلت قبل ثلاثين عاماً:
|
بقينا على مرِّ الليالي كما كنِّا |
فلم نستفد منها ولا غيَّرت منَّا |
نهيم بوادي التيه حيرى تلفُّنا |
سدول ظلام في ضمائرنا جنَّا |
ضمائر في ظل النفاق ترعرعت |
فهامت به شوقاً وتاقت له فنَّا |
وعبَّت حميَّاه غراماً ولهفة |
فما تركت كأساً ولا أغفلت دنَّا |
تملَّكها حتى استحال سجية |
ملازمة لم تنفصل لحظة عنَّا |
نكيل لمن غنَّى المدائح شاقنا |
ترنُّمه أم ساءنا وقع ما غنَّى |
ونظهر تعظيماً لكل مغامر |
جديد وإن كنا نسيء به الظنَّا |
نردِّد ما تهوى أساطين حزبه |
كأنا بما صاغوا من القول آمنَّا |
فإن مدحوا قزماً مدحنا وإن دعوا |
على بطل من خيرة القوم أمَّنا |
ونزعم خوَّاناً من الناس من سعى |
على غير ما شاء الزعيم وما سنَّا |
وإن كان لم يسرق من الشعب حقه |
عفافاً ولا خان البلاد كما خنَّا |
قبلنا من المبتز حلو ادِّعائه |
وفزنا من الأقوال بالروضة الغنِّا |
أتى بالمنى الخضراء حين مجيئه |
وعوداً ولم يصدق بما كان قد منَّى |
وكم مدَّع تحرير شعب وفعله |
يبرهن أن الشعب أمسى له قنَّا |
بقينا صراعاً بين آلام حاضر |
وماض على أطيافه نقرع السنَّا |
تمرُّ بنا الأيام دون توقُّف |
وتمضي لياليها ونحن كما كنَّا |
بعد انقضاء ثلاثين سنة على كتابة تلك الأبيات: هل بدر ما لا يتفق مع مضمون ما قيل؟ أكاد أقول: إن ذلك المضمون قد تعمَّق بحيث أصبحت تمارسه شرائع من مجتمعاتنا العربية المسلمة ما كان يظن أنها ستكون بين من يمارسونه؛ ناهيك أن تكون في طليعتهم.
|
وماذا عن المجتمعات غير العربية المسلمة؟
|
لو تأمَّل المرء وسائل الإعلام المختلفة في هذه المجتمعات حق التأمَّل لوجد بوناً شاسعاً بينها وبين وسائل الإعلام في مجتمعاتنا. فالمديح الممجوج لدى ذوي البصر والبصيرة غير موجود بين الحاكم والمحكوم. على أنه يوجد لدى قادة الدول غير المسلمة وغير العربية من شعب النفاق ما يوجد. فكم من زعيم غربي قال خلاف ما يؤمن به، وأظهر لمن لديهم قابلية الانخداع من قادة أمتنا بما يقوله كلاماً يتنافى مع ما يفعله على أرض الواقع.
|
كان ذلك واضحاً في انخداع الشريف (الملك) حسين بن علي، رحمه الله، في أقوال زعماء بريطانيا، فأصبح - بدلاً من أن يملَّك على ما ينتزع من أراض عربية من حكم الدولة العثمانية - شريداً غير قادر على أن يعيش مجرَّد عيش في أرض عربية. ومن يتدبَّر سيرة الرئيس الأمريكي، ولسون، بحيث يقارن ما نادى به من مبادئ عظيمة بموقفه من إعلان وعد بلفور الظالم؛ إذ كان أول زعيم غربي يؤيِّد ذلك الوعد، يدرك عدم الصدق فيما نادى به ذلك الزعيم. أما ادّعاء الرئيس روزفلت بأن حكومته لن توافق على ما يضر بالحق العربي في قضية فلسطين فيكشف مصداقيته من عدمها ما ورد في بيان وزارة خارجيته وهو أن: (كل رئيس أمريكي) ابتداء من الرئيس ولسون، قد عبَّر عن اهتمامه الخاص في مناسبة واحدة، أو مناسبات عدة، بفكرة وطن قومي (لليهود)، وأبدى سروره بالتقدم الذي وصل إليه إنشاء هذا الوطن. وفوق ذلك فقد عبَّر عن عطف الأمريكيين على الوطن اليهودي في فلسطين... وأنه في ضوء هذا الاهتمام قد راقبت الحكومة الأمريكية وشعبها بأشدّ العطف تدرُّج الوطن القومي في فلسطين. وهو مشروع لعب فيه الذهب ورأس المال الأمريكي دوراً رئيسياً).
|
وأما دعوة الرئيس بوش الابن المسلمين إلى إفطار رمضاني في البيت الأبيض فمن الصعب أن يصدق إخلاصها عاقل؛ وبخاصة أنها وجهت من رجل أبى عقله الباطني إلا أن تبدو على لسانه كلمة (صليبية) في تعبيره عما أعده من عدوان إجرامي على أحد أقطار أمتنا. وما ارتكبته إدارته في العراق وغير العراق من جرائم تبين مدى عداوة القوم لهذه الأمة مهما انخدع بشيء من خداعهم وأقوالهم من انخدعوا.
|
على أن المؤلم حقاً أن تظل صفة الانخداع متأصلة عند بعضنا بحيث أصبح يوجد من يصدق ما تظهره الإدارة الأمريكية الحالية من عبارات بينها وبين الواقع الملموس فرق عظيم. فالواضح أن هذه الضفة الغربية المحتلة عام 1967م يجب أن تعود إلى أهلها العرب كاملة غير منقوصة، ولا ترى وجوب إزالة المستعمرات (المستوطنات)، كما لا ترى - وهذا مهم جداً - عودة اللاجئين الفلسطينيين إلى وطنهم.
|
ما هو جار على أرض الواقع زيادة قوات ترسل إلى أفغانستان المحتلفة ينتج عنها، أحياناً، إبادة لمدنيين أبرياء، ودفاع عن موقف الكيان الصهيوني حتى لا يدان على جرائم الحرب، التي ارتكبها قادته، وغضب من تركيا لموقفها المشرِّف بعدم السماح لهذا الكيان أن يشترك معها في مناورة جوية، والتعويض عن ذلك - فيما يبدو - بمناورة أمريكية صهيونية استخدمت فيها أحدث ما توصل إليه العلم من تقنيات. وإذا كان السادرون منا قد مدُّوا يد الضراعة إلى أعداء أمتنا عندما كانت الإدارة الأمريكية في أوج صلفها فليس غريبا أن ينخدع المنخدعون بأقوال يسمعونها من أفواه من يتقنون الكلام المعسول من أقطاب الإدارة الأمريكية الحالية. وسلام على القدس حين يعيده المخلصون حيا.
|
|