Al Jazirah NewsPaper Monday  26/10/2009 G Issue 13542
الأثنين 07 ذو القعدة 1430   العدد  13542
الحوار الوطني.. سياسة شاعر المليون!
د. عبدالرحمن الحبيب

 

من بين آخر خمسة لقاءات سنوية لمركز الملك عبد العزيز للحوار الوطني هناك فقط لقاء فكري واحد (نحن والآخر: رؤية وطنية للتعامل مع الثقافات العالمية) عام 1426 هـ، بينما بقية اللقاءات كانت حواراً في القضايا الخدمية.. فهل توقف المركز عن الحوار في القضايا الفكرية؟

هل تخلى منظمو اللقاءات الوطنية السنوية عن طرح المواضيع الفكرية التي تحتاج للتحاور مثل الوحدة الوطنية والعلاقات والمواثيق الدولية في اللقاء الأول، والغلو والاعتدال في اللقاء الثاني، وطرحت بدلاً منها مواضيع خدمية مثل التعليم في اللقاء السادس، والعمل والتوظيف في اللقاء السابع، وأخيراً الخدمات الصحية في اللقاء الثامن؟ وهل سبب هذا التخلي هو رغبة الأغلبية في أن تكون اللقاءات حواراً في القضايا الخدمية، أم رغبة إدارة المركز في تجنُّب حساسيات الحوارات الفكرية؟

في تصويت بموقع المركز بالإنترنت حول نوع المواضيع في اللقاءات والمؤتمرات الوطنية التي تتمنى أن تركز على القضايا: الفكرية، الخدمية، السياسية، الاقتصادية.. كانت النسبة:40% للفكرية، 42% للخدمية، 8% للسياسية،10% للاقتصادية. وبذلك تحصل القضايا الخدمية على الأولوية! وأيضاً لو تتبعت آراء المهتمين بهذه اللقاءات لوجدت أن أعلى نسبة هي لمؤيدي طرح القضايا الخدمية.

لكن هذا في رأيي، لا يبرر إطلاقاً إعطاء القضايا الخدمية الأولوية في اللقاءات، ناهيك عن أن تكون لها كل اللقاءات الثلاثة الأخيرة. وذلك لأسباب عديدة أهمها سبب مبدئي هو أن القضايا الخدمية ليست من أهداف المركز. فلو استعرضنا أهداف المركز الثمانية لن نجد فيها إشارة مباشرة للقضايا الخدمية، مع إشارة غير مباشرة في الهدف الرابع. بالمقابل سنجد إشارات مباشرة للحوار الفكري في الهدف الأول والثالث والسابع، وإشارات غير مباشرة في بقية الأهداف.

إذن، على المركز أن يلتزم بأهدافه بغض النظر عن نتيجة التصويت، لأنه لا ينبغي أن يُنظر للتصويت على أنه استفتاء كما هو موضح في موقع المركز، بل على أنه استطلاع للرأي يؤخذ في الاعتبار ولا يعني اتباعه، فهو ليس تصويتا على أفضل الأغاني أو القصائد كشاعر المليون.. ومن ثم يتم توضيح ذلك للمهتمين والمتابعين للقاءات الوطنية بأن لب أهداف المركز هو القضايا الحوارية الفكرية، ولا يمكن الاستفتاء عليها إلا إذا عُدلت أهداف المركز..

فلو أن المركز عمل التصويت على تفريعات الحوار الفكري، مثل تنظيم الحوار الفكري على مستوى الندوات الفرعية أو ندوة واحدة كبرى، ومثل توزيع الحوار على مستوى المناطق أو البلد ككل، ومثل اختيار الموضوعات الفكرية ذات الصبغة الاجتماعية أو الثقافية أو السياسية..إلخ؛ فهنا يمكن اعتبار التصويت استفتاء على ما يفضله المشاركون والمتابعون، لأنه لم يخرج عن أهداف المركز..

ولنا أن نتصور مركزاً للأبحاث الزراعية، هدفه الأساسي إنتاج الأبحاث، وينبع منها أهداف فرعية خدماتية للمزارعين وتدريبية للطلبة والفنيين. فلو عمل مركز الأبحاث هذا تصويتاً بين المهتمين على أهم الأعمال التي ينبغي تقديمها، فإن أغلب المزارعين سيصوتون للأعمال الخدمية التي ينتفعون منها مباشرة، وليس الأبحاث التي يأتي تأثيرها النافع غير مباشر وعلى المدى الطويل.. فهل يُغير مركز الأبحاث طبيعته البحثية التي تأسس من أجلها بسبب التصويت؟

في اعتقادي أن واضعي أهداف مركز الملك عبد العزيز للحوار الوطني، كانوا على وعي ودراية بأن المواضيع الفكرية لها الأولوية في المحاورة والتفاهم بين التيارات الفكرية المختلفة في المجتمع السعودي، ومن هنا جاء التركيز عليها في الأهداف، بينما القضايا الخدمية هي مواضيع تقنية متخصصة متفق عليها بين كافة الأطراف، والخلاف فيها هو خلاف تقني إداري تنظيمي وليس رؤية فكرية تختلف فيها التيارات الفكرية.

أما من يُصر على طرح القضايا الخدمية كأولوية، حتى لو لم تنسجم مع أهداف المركز، بحجة أنه يُجنى منها فوائد مباشرة لخدمة المواطن، أفضل من القضايا الفكرية التي لا تثمر إلا كلاماً في كلام، فإنه يغيب عن رؤيته أن الحوار ليس هدفه الخدمة اليومية المباشرة عبر توصيات خدمية وبرامج عمل تُرفع لصاحب القرار، فالحوار لا يصيغ قرارات ولا توصيات تنفيذية بل ينتج أفكاراً ورؤى وصيغ تفاهم فكرية وتصورات لحلول الأزمات العامة تؤثر في الرأي العام، وليس مؤتمراً تُطلب منه حلول مباشرة وبرنامج عمل للخروج من أزمة ما كالبطالة أو الرعاية الصحية، فتلك مهمة جهات أخرى.

فالقضايا الخدمية يتم تناولها بشكل مستمر من الوزارات والمؤسسات الحكومية وغير الحكومية المعنية، وتقام لها ندوات ومؤتمرات يحضرها خبراء متخصصون وأصحاب العلاقة، ويكون بها دراسات وأبحاث ونقاشات وشكاوى، وتخرج بتوصيات تُرفع لصاحب القرار، فما الذي يمكن أن يضيفه المركز تنفيذياً في تلك اللقاءات الوطنية للحوار في القضايا الخدمية؟

أما من يخشى طرح القضايا الفكرية تلافياً للمواجهة الحادة بين التيارات المختلفة، فهو ينسى أن طبيعة الحوار تكون بين فرقاء وليس بين متفقين.. بين أصحاب رؤى ومصالح مختلفة. فتجنب طرح القضايا التي تستلزم مواجهات حوارية فكرية ينجم عنه كبت تلك الانفعالات وعدم إطلاقها على طاولة الحوار الصحي، بل إطلاقها في مواقع أخرى بطريقة متهورة ومؤذية!

فالمركز نجح في السابق في جذب زخم إعلامي هائل وشهدنا معه حراكا ثقافيا ثريا عندما كانت اللقاءات حواراً في القضايا الفكرية الحساسة بين فرقاء في الفكر مشحونين عاطفياً وفي حالة توتر، ورأينا كيف هدأت الخصومات الانفعالية بين الفرقاء، حين تسنى لكثير من الأطراف أن يعبر عن فكره في جو ودي من الشفافية والمصارحة، ومن ثم دخل الحوار في أغلب سياقاته في حالة تفاعل ثقافي واختلاف صحي متوازن الانفعال، وتفهَّم المتحاورون وقدروا حق الاختلاف الطبيعي في فكر بعضهم البعض.. كل ذلك يدعم الجبهة الداخلية لبلدنا..

ولكي لا نغمط حق المركز في نشاطاته الأخرى المتنوعة خارج اللقاءات الوطنية السنوية، التي شملت ندوات إعلامية حوارية وتدريبية، وإصدار الكتب، والتفاعل مع النشاطات الثقافية والتعليمية، مع ما صاحب ذلك من براعة في التنظيم وكفاءة في الأداء ومثابرة في المتابعة.. فلا بد من تقدير تلك الجهود الرائعة..

لكننا شهدنا خفوتاً إعلاميا وبداية جمود ثقافي عندما تحولت اللقاءات إلى القضايا الخدمية، حتى أنك قلما تجد مثقفا أو إعلاميا يتابعها! فلا تزال هناك العديد من القضايا الفكرية الحساسة التي قد يصاحبها انفعالات وتوترات يمكن تناولها على طاولة الحوار الوطني، لتصبح هادئة، وليصبح الحوار أكثر ثراء وأبعد عن المساجلة وعن الغوغائية التي نجدها في الحوارات بمواقع أخرى كالإنترنت..

وفي الأخير، فإن بإمكان اللقاءات الفكرية ? كما حدث في السابق ? أن تحوِّل الخلافات التناحرية إلى اختلافات تكاملية بين الأطراف المختلفة، ومن ثم تكريس الوحدة الوطنية، وهذا هو الهدف الأول من أهداف المركز.



alhebib@yahoo.com

 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد