من أكثر الانتقادات التي وجهت لشركات التأمين التعاونية والمصارف الإسلامية عدم التزامها بتطبيق المعايير الصارمة في تعاملاتها الاستثمارية لضمان خلو معاملاتها المالية من أية شبهة قد تُخرجها من نطاقها الشرعي. يعتقد البعض بوجود تهاون في تطبيق المصارف فتاوى الهيئات الشرعية، في الجانب التنفيذي على وجه الخصوص. شبهة التعمد قد تُستبعد في هذا الجانب، إلا أن تدني الثقافة الشرعية في التعاملات المالية لدى العاملين في قطاعي المصارف الإسلامية، وشركات التأمين قد تُخل في نقاء معاملاتها المالية.
ذهب بعض العلماء إلى التشكيك صراحة ببعض المنتجات الإسلامية المزدهرة في سوق المصارف الإسلامية، ووصفوها بأنها (أكثر خطورة من الربا لوجود التحايل واستغلال عاطفة الناس). جمع من العلماء المختصين في المصرفية الإسلامية أكدوا على شرعية تلك المنتجات، وخلوها من شبهة التحايل. ربما كان لمصطلحات العقود والمنتجات الإسلامية الحديثة دور في ذلك اللبس والتجاذب الذي حدث بين العلماء أنفسهم قبل أن ينتقل إلى ساحة المتعاملين مع المصارف الإسلامية وشركات التأمين التعاوني.
وفيما يتعلق بحكم التأمين فقد ذهب عامة العلماء المعاصرين إلى تحريم التأمين التجاري وإجازة التأمين التعاوني، إلا أن ذلك الاتفاق لم يمنع من خروج فتاوى مضادة بالتحريم الكلي أو الجواز الكلي لأمور مختلفة. بعض العلماء ركز على (نظام التأمين) الرسمي، وتضمنه بعض المواد المتعارضة مع أصول التأمين التعاوني ما قد يُثير الشُبهة بشركات التأمين التعاوني لاعتمادها ذلك النظام!.
البعض ذهب إلى تحريم التأمين الموجود في السوق المحلية بالكلية، ونفى وجود الفارق الحقيقي بين التأمين التجاري والتعاوني على مستوى التطبيق مؤكداً على أن ليس هناك (سوى التأمين التجاري، حتى ولو تسمى بعضها بمسمى التعاوني). وعلى العكس من ذلك يرى البعض بإباحة التأمين بشقيه، ويؤكد أحد العلماء على أن (التأمين التعاوني لا يختلف عن نظيره التجاري سواء من حيث التطبيق أو آلية التنفيذ، وأن جميع أطراف عقد التأمين رابحون).
الأكيد أن علماءنا الثقات لن يُطلقوا حكماً شرعياً قبل التأكد من صحته اعتماداً على الكتاب والسنة المطهرة، والقياس أو الاجتهاد المبني على العلم والتبصر، إلا أن التضارب في بعض الفتاوى المالية يزيد من حيرة المسلمين الراغبين في الحصول على المنتجات الإسلامية النقية بعيداً عن شبهة الربا.
تحت عنوان (هيئة شرعية مركزية للمعاملات المصرفية) كتبت العام 2005 ما نصه: أصبحت (المصرفية الإسلامية تتقدم بشكل مضطرد وتتشعب حتى صارت أكثر تعقيداً من ذي قبل الأمر الذي يستدعي وجود هيئة شرعية مركزية للمصرفية الإسلامية تنبثق منها لجان خاصة يكون من ضمنها لجنة دائمة لفتاوى المعاملات المصرفية ولجنة تهتم بوضع الإستراتيجيات التي تكفل التحول التام نحو المصرفية الإسلامية لجميع البنوك السعودية.. وبذلك تتصدى اللجنة الشرعية المركزية للفتاوى الخاصة بأحكام المعاملات المصرفية وتكون المرجع الأوحد في البلاد)، وأشرت في مقالة أخرى إلى ضرورة ارتباط الهيئة بسماحة المفتي مباشرة للجمع بين النظرة الشرعية المتخصصة وبين الجهة الرسمية التي أسند لها ولي الأمر شؤون الفتوى في البلاد.
يمكن للهيئة الشرعية المركزية أن تَحل الإشكالات الحالية الناجمة عن تضارب الفتوى واختلافها، وأن تزيد من ثقة، وطمأنينة المتعاملين بمنتجات المصرفية الإسلامية. قد لا يرى الكثير من العلماء بتقنين الفتوى وقصرها على جهة محددة إلا أن المصلحة العامة تقتضي مثل هذا التنظيم خصوصاً مع تطور المعاملات المالية وتعقيد منتجاتها. جمع القرآن، وتنقيط حروفه، وضبط كلماته أمور كانت من المحرمات في وقتها، إلى أن شرح الله صدور أهل الحل والربط لتنفيذها فجاءت نتائجها رحمة وبركة على المسلمين، وحفظا للكتاب العظيم الذي تعهد ربنا الكريم بحفظه.
في سورية أعلن رسميا عن تأسيس لجنة استشارية للرقابة الشرعية، برئاسة مفتي الجمهورية، بهدف تنظيم عمل شركات التأمين، وإعادة التأمين التعاوني، ووضع معايير محاسبة إسلامية، وتنظيم دور هيئات الرقابة الشرعية في شركات التأمين التكافلي. الدكتور علاء الدين الزعتري، مدير الإفتاء في وزارة الأوقاف السورية صرح لجريدة ال(الشرق الأوسط) حول أهمية إنشاء اللجنة، ودورها بقوله: (كل عمل يراد له النجاح والتألق يحتاج إلى رؤية خارجية خبيرة، تُلاحظ وتُشرف، وتوجه وتصحح، وتتدخل عند اللزوم لتعديل المسار، بمبضع الجراح الماهر، وبحكمة الرجل الوقور، وصلابة الرجل الثابت. وإحداث اللجنة الاستشارية الشرعية العليا ليس من باب التشكيك في القدرات والخبرات الموجودة لدى هيئات الرقابة الشرعية في شركات التأمين التكافلي، لكنه نوع من التآزر والتواصي بالحق.... إن وجود سماحة المفتي العام للجمهورية في لجنة يضفي عليها مزيداً من الارتياح والطمأنينة، بكون العمل على أعلى مستوى من المسؤولية، من الناحية الفقهية لبيان الضوابط الشرعية). الحاجة الملحة اقتضت إلى إنشاء تلك اللجنة الاستشارية التي أعتقد أنه من الضروري إيجاد شبيه لها في كل دولة إسلامية تؤمن بتقديم الخدمات المالية الإسلامية المتخصصة.
العمل المؤسساتي المنظم للهيئات الشرعية المتخصصة في المصرفية الإسلامية بات مطلبا مهما لتحقيق هدف أسلمة التعاملات المالية، وزيادة ثقة المسلمين بالمنتجات المتوافقة مع متطلبات الشريعة الإسلامية، والخروج من الخلاف، والمجادلة الإعلامية؛ وهو أمر لا يمكن تحقيقه إلا من خلال إنشاء (هيئة شرعية مركزية للمعاملات المصرفية).
* * *
f.albuainain@hotmail.com