تقول الأرقام الصادرة مؤخراً عن مؤسسات التحقق من الانتشار والمشاهدة للفضائيات التلفزيونية: إن برنامج الشيخ سلمان العودة (حجر الزاوية) على محطة الإم بي سي MBC نال قصب السبق مقارنة بالبرامج الأخرى على الفضائيات. هذا يعني في لغة المؤشرات الإحصائية أن (الوسطية) والموضوعية والتسامح وفقه التيسير هو المطلوب جماهيرياً. هذه الحقيقة مازالت - للأسف الشديد - غائبة عن بعض فقهائنا ودعاتنا، وبالذات صغار السن منهم، حيث مازال كثيرٌ منهم يتبارون فيما بينهم في طرق سبل التشدد والتعسير. وفي تقديري أن هذا التباري فيما بينهم سببه البحث عن الشهرة واجتذاب الشارع وتلمس أسباب التألق والنجومية. ربما أن التشدد والتصعيد والتحدي كان في الماضي القريب، أقصر الطرق للنجومية والألق الاجتماعي؛ غير أن المزاج (الجماهيري) اليوم تغيّر، وشعر الناس - على ما يبدو - أن ثقافة (التشدد)، والإغراق في التطرف، واختيار (الأحوط) دائماً، جشمتهم ما لا يُطيقون معه صبرا. فصاروا أكثر ميلاً لفقهاء التسامح، والبعد عن المتشددين، الذين تتناقص شعبيتهم، ويقل تأثيرهم، ويحاصرهم الإهمال، يوماً بعد يوم، في حين تتزايد شعبية فقهاء التسامح والتيسير، مثل الشيخ العودة. وهذا ما تثبته الأرقام الإحصائية التي لا تكذب.
ظاهرة الدكتور العودة المتألقة والتي فاقت من حيث (أرقام المشاهدة) كل أقرانه بلا استثناء تقودنا إلى حقيقة أن (الأغلبية الصامتة) اليوم تنحو نحو الانفتاح والتسامح والبعد عن التشدد. غير أن هناك من لا يقرأ الواقع بموضوعية، ويعتقد أن ما كان صالحاً للأمس سيكون صالحاً بالضرورة اليوم، وأن دخول قنوات التواصل مع العالم كأدوات فاعلة ومؤثرة على الواقع لا علاقة لها بتغير الوعي لدى إنسان الداخل. القنوات الفضائية والإنترنت ألغى الحدود والمسافات، وفي الوقت ذاته فتح كوة جديدة من خلالها استطاع إنسان الداخل أن يرى ماذا يدور خارج حدوده؛ ومثل هذا التأثر سيكون بالغاً ومفصلياً على الشباب الذين أصبحت وسائل الاتصالات الحديثة جزءاً من حياتهم. في الماضي كان التواصل مع الخارج يتم من خلال نطاق ضيق، إما من خلال المطبوعات التي تتم رقابة محتوياتها قبل الإذن لها بالدخول، أو من خلال الإذاعات التي تمتلكها في الغالب الأنظمة، والتي تقوم بمهمة دعائية أكثر منها إعلامية، لذلك كان تأثيرها محدوداً في تشكيل ذهنيات الشعوب ووعيها. الآن اختلف الوضع، أصبح دور الحكومات والأنظمة في التحكم بما تتلقاه شعوبها من معلومات يكاد لا يذكر. فالمتلقي اليوم أمامه كل الخيارات دون استثناء، وهو الذي يرى ويسمع وبالتالي يقبل أو يرفض.
غير أن هناك عقليات من بعض الفقهاء وطلبة العلم مازالت ترفض هذه الحقيقة، وتصر أن بالإمكان أن تمنع، أو تحجب، مثلما كان الوضع في الماضي. هذه العقليات ستنتهي بالضرورة إلى الخروج من القدرة على التأثير، ويصبح خطابها الرافض تماماً مثل خطاب من رفضوا مكتشفات العصر، ومواكبة العصر، فأصبح خطابهم اليوم مجرد (تاريخ)، يحاول البعض أن يجد له مبررات، أو أن يتلمس له مخرجاً، إما باللعب على النوايا والمقاصد ولي أعناقها، أو بالقول: إن من (رفضوا) آنذاك كانوا لا يعدون من طلبة العلم والفقهاء مع أن الواقع يقول خلاف ذلك؛ في محاولة للتبرير تكتنفها العاطفة، ويرفضها العقل والمنطق والتحليل السليم.
الدكتور العودة كظاهرة يجب أن يقرأ بواقعية؛ فالعاقل من اعتبر بالتاريخ وحاول أن يتواءم معه، ويستفيد من تجاربه؛ وهذا العامل المفصلي تحديداً كان وراء حصد هذا الشيخ لأرقام المشاهدة بهذا المستوى اللافت.
إلى اللقاء.